حمدي قنديل: يحكي قصته بقلم رصاص

2021.07.26 | 06:26 دمشق

20626991._uy630_sr1200630_.jpg
+A
حجم الخط
-A

كنت أرتب كتب دار الشروق، وأسرق النظر للعناوين التي تؤرخ لمصر وللسير الذاتية التي أصدرتها الدار مثل مذكرات نوبار باشا، ورحلة المسيري الفكرية، ورحيق عمْر جلال أمين، وحياة والده أحمد أمين. وصلت لغلاف كتاب عشت مرتين لحمدي قنديل وشعرت بالزهد في الكتاب، هذا إعلامي مشهور فماذا سيكتب عن حياته؟ لم أفكر في شراء الكتاب لكي ينضم لأصحاب السير الذين أصحبهم في رحلة الحياة، إلى أن حكى صديقي عن الكتاب ومدحه، وكعادة القارىء الذي يكتشف قيمة كتاب عند مدح الناس له، عدت واشتريته وسهرت معه.

جلست أقرأ وأقطع أشواطا في الكتاب وأنا أشعر بالاندماج في حكايات قنديل، لقد أمسك بقلمه الذي تربى في حرم الصحافة، وجلس يكتب للقارىء قصة أيامه، وهو يصارحه أنه طيلة حياته لم ينظر إلى الوراء، وأنه دائما ما كان يتطلع إلى المستقبل، ويجد في غموض المستقبل بريقاً يحفزه على الاقتحام. جعل اسم سيرته "عشت مرتين" وعندما علم أن الفنان يوسف وهبي له مذكرات بعنوان "عشت ألف عام" حمد الله أنه لا تزال لديه بقية من تواضع ليحسب حياته بحياتين لا أكثر، وعندما اشتريت الكتاب قال زميلي البائع بالطبع عاش مرتين لأنه تزوج الممثلة نجلاء فتحي.

فكر قنديل وهو مقبل على كتابة سيرته في عيوب كتابة السير الذاتية والمذكرات، يقول: "قرأت ما قرأت من مذكرات الآخرين بشك كبير دائماً، ذلك أن أصحابها -وهم عادة من المتقاعدين- غالباً ما يضخمون من أدوارهم، وينزلقون مثل كل كبار السن إلى تفاصيل يضيع فيها الخيط الأساسي.. وجدت العديد منهم يزيفون التاريخ أو يصفون حسابهم معه، أو يحدثوننا عن بطولاتهم ويتأففون من التلميح إلى سقطاتهم، أو يفعلون مثلما فعل المفكر الكبير عبد الرحمن بدوي عندما نضحت مذكراته بكل مراراته بعد ما لاقاه في حياته من تجاهل وظلم، أو ينتزعون من قاع الذاكرة بعض ما رسب فيها من وقائع سمجة يظنونها طريفة، أو يسهبون في حوارات يقولون إنهم أجروها مع كبار القوم وصناع القرار، لا لشيء إلا ليوهمونا بأنهم كانوا شركاء في صناعة سياسات أغلب الظن أن الكثير منها أودى بنا إلى المجهول".

لذلك قرر قنديل كتابة سيرته وهو يحاول ألا ينزلق إلى إعطاء الدروس، وإن كان له دور في الحياة يمكن أن يزهو به فهو دور الصحفي لا دور السياسي. يبدأ الكتاب بحكايات عن بيته الذي يعرف ربنا، وعن طفولته في طنطا وصداقته في المدرسة مع الصحفي جمال بدوي، وعمرو موسى الذي أصبح وزيراً للخارجية وأمينا عاما للجامعة العربية، وعن سنواته الأولى الجامعية في القاهرة، وتعرفه على شلة بريئة، دعوه ذات مرة وصارحه صديقه أنهم سيدخنون أجدع حشيش في مصر، ولم يمانع قنديل، لكي يثبت أن الأفندي لا يهزه الحشيش فدخن بدلاً من السيجارة ثلاثا، ولكنه عندما غادرهم مبكراً ضاع في مسالك القلعة وحواريها وهو يبحث عن محطة الأوتوبيس.

بداية تعرف قنديل على العالم خارج مصر كانت عن طريق اتحاد الطلبة العالمي في براغ، حيث تلقى دعوة من أحد الأصدقاء للسفر لحضور المؤتمر عام 1955، وطلب منه زميله أن ينسق مع الشاب ياسر عرفات الذي سيحضر المؤتمر هو الآخر، ولم يكن ياسر عرفات شخصية معروفة عندئذ، كان مجرد طالب يدرس في كلية الهندسة بجامعة القاهرة، ولم تكن الحكومة في مصر تشجع على تلك الصلات بين المنظمة الطلابية بسبب خوفها من تسلل الخطر الشيوعي إلى مصر في ذلك الحين، لذلك سافر قنديل دون إخطار الحكومة، وسافر معهم صلاح خلف الذي اشتهر فيما بعد باسم أبو إياد ورافق عرفات في مسيرته في فتح، وزهير العلمي الذي أصبح رجل أعمال.

الكتاب مقسم على طريقة الموضوعات ولا يلتزم الترتيب الزمني، هناك فصل عن ذكريات قنديل مع سوريا وسفره الدائم لها، وعمله مع الصحفي نصوح بابيل في دمشق

وصل حمدي قنديل إلى براغ وحضر المؤتمر الطلابي ومنها تلقى دعوة لزيارة الاتحاد السوفيتي، وهناك التقى مع الشاب يفجيني بريماكوف، شاب روسي يعمل في القسم العربي في الإذاعة الروسية، وبعد ذلك سيصبح هذا الشاب بعد سنوات وزيراً لخارجية روسيا ثم رئيسا لحكومتها في عهد يلتسين. وفي روسيا حصل على فرصة عمل في الإذاعة العربية، وتردد في قبولها، وتوجه للسفارة المصرية ليسأل السفارة عن رأيها في عمله في الاتحاد السوفييتي، وطلبوا منه عدة أيام لسؤال القاهرة، وجاء الرد سريعا في برقية صغيرة تقول: "خالك بيقولك عد فوراً إلى القاهرة" وكان خال حمدي قنديل المقدم صادق حلاوة يشغل المنصب المناسب للرد على هذا السؤال، حيث كان رئيس قسم مكافحة الشيوعية في وزارة الداخلية.

من الفصول الجميلة في الكتاب ذكريات حمدي قنديل مع الصحافة وهو شاب وتجربته فيها، وعن سنوات دراسته للصحافة وعدم حضوره للمحاضرات واللف على الصحف، حتى إن الدكتور خليل صابات أستاذ الصحافة كان يمازح قنديل بعد ما ذاعت شهرته قائلاً له: "هذا حمدي قنديل..فلح لأنه لم يحضر محاضرة واحدة لي".

الكتاب مقسم على طريقة الموضوعات ولا يلتزم الترتيب الزمني، هناك فصل عن ذكريات قنديل مع سوريا وسفره الدائم لها، وعمله مع الصحفي نصوح بابيل في دمشق. بعدها يصحبنا في رحلة عن ذكرياته في التلفزيون المصري في الستينات وبدايته مع برنامج "أقوال الصحف"، والذي توقف أول مرة بسبب إذاعة خبر عن الرئيس عبد الناصر في نهاية الحلقة، والمعتاد إذاعة الأخبار المتعلقة بالرئيس في البداية، وذهب قنديل إلى سامي شرف سكرتير الرئيس، وعرض عليه الأمر وجاء الرد منه قائلا: "الريس بيقولك خد الجرايد وروح على الاستوديو بتاعك على طول من غير ما تكلم حد". وهنا نكتشف هذا القرب بين مؤسسة الرئاسة في عهد عبد الناصر والعديد من الموظفين عبر تقديمهم شكاوى للرئيس للتدخل في مشاكل من قبيل تعيين معيد مثلما فعل جابر عصفور عندما حرم من التعيين وطلب تدخل الرئاسة، وحصل على الوظيفة.

من هذه القصة نكتشف حب قنديل للنظام الناصري، قدم في أحد فصول الكتاب مرافعة دفاعية عن العهد الناصري، ليبرز محاسنه والمباهج التي تمتع بها في زمن الستينات، وهو يحكي عن غلبة السعادة عليه في هذه السنوات، وأن الراتب المتواضع كان يكفي، وأنه اشترى سيارة نصر من راتب التلفزيون، وعن فرحته بالعمل كمذيع. لكنه ارتبك ذات مرة عندما غاب زميله وتقرر أن يقدم حفل أم كلثوم الذي يحضره عبد الناصر، هنا وقف على المسرح وقال أيها السادة: إليكم أم كلثوم" وغادر منصة المسرح ورأى أم كلثوم وهي تتقدم وقالت له: "ده كل اللي ربنا فتح بيه عليك؟". ولم يتمالك قنديل نفسه وبكي وهو يذيع جنازة عبد الناصر ومعه المذيع جلال معوض، ومن أجل مواكبة الحدث وروح النكتة أطلق عليهما زملاؤهم في التلفزيون لقبين للتندر: حمدي منديل وجلال معيط.

يستمر قنديل في حكاية ذكرياته في الكويت خصوصاً زيارته المبكرة لها بعد حرب الخليج ودخول قوات صدام ويصف المشهد ويحكي عن صداقاته مع الكويتيين

يعترف قنديل بأن لثورة يوليو أخطاء بلا شك، وفي مقدمتها مصادرة الحريات وسيطرتها على الإعلام، ويقدم في سيرته اعتذاراً للإخوان المسلمين عن الأحاديث التي أجراها مع معتقلين منهم في السجن الحربي عام 1965، خصوصاً بعد ذهاب عنفوان الشباب، وفي لحظة حساب مع النفس، أيقن قنديل أنه ارتكب خطأ مهنيا وأخلاقيا باستجواب معتقلين قيدت حريتهم فاعتذر. ليس هذا هو الاعتذار الوحيد في الكتاب، هناك مراجعة لحديث صحفي أجراه قنديل بعد حرب 1973 مع الكولونيل عساف ياجوري صاحب أعلى رتبة بين الضباط الإسرائيليين الذين أسرهم الجيش المصري، كان قائد اللواء 190 مدرع، أجرى قنديل الحوار وعاد للمنزل ورأى قنديل والدته التي عاتبته ونظرت له بوجه عابس، وقال لها لماذا العتاب؟ قالت كيف تحاور أسيراً؟ وهنا أفحمته بإجابتها، وقالت له: ماذا تتوقع لو أسر الإسرائيليون أخاك ماجد قنديل وخرج في حوار مع التلفزيون وهو أسير؟ وهنا شعر قنديل بالندم على إجراء هذا الحوار.

يستمر قنديل في حكاية ذكرياته في الكويت خصوصاً زيارته المبكرة لها بعد حرب الخليج ودخول قوات صدام ويصف المشهد ويحكي عن صداقاته مع الكويتيين، ثم يسرد ذكرياته عن الجزائر، ونرى ولعه بالسبق الصحفي منذ شبابه وتسجيله لحظة دخول بن بله إلى الجزائر، وعن تسجيله حواراً طويلً مع بوتفليقة لمدة 3 ساعات، أذاع التلفزيون المصري النصف الأول منه فقط، وعندما استفسر قنديل من وزير الإعلام صفوت الشريف قال له: "ده الرئيس مبارك عمره ما طلع يتكلم في التلفزيون 3 ساعات".

تستمر سيرة قنديل في حكاية كواليس تغطياته الصحفية في اليمن والعراق غيرها من الدول، ثم شعوره بالضيق من مصر في عهد السادات، وانتقاله للعيش في باريس حيث عمل في اليونسكو، ويحكي لنا عن حياته الباريسية وعن تفاصيل العمل في هذه المؤسسات، وعن زيجاته الثلاث في ثنايا الحديث، وعن دخوله مجال العمل بالأقمار الصناعية، ومحاولاته المتكررة ليصبح رجل أعمال والتي باءت جميعها بالفشل، حتى أنه عمل على أكثر من مشروع تلفزيوني مع الشيخ صالح كامل، لكن الملك فهد اعترض على ظهور قنديل في أحد القنوات لأن قنديل هاجم الملك فيصل في التلفزيون في الستينات.

تصل السيرة إلى حكايات برنامج رئيس التحرير وقلم رصاص، عندما ظهر على شاشة التلفزيون وهو في عمر الستين، بعد انقطاع لمدة عشرين عاماً عن الشاشة، ويحكي لنا عن حالات التضييق التي تعرض لها من التلفزيون المصري، ويقدم صورة قريبة لشخصية وزير الإعلام صفوت الشريف، ويسميه المعلم ويشرح المزايا والمواهب التي تمتع بها صفوت الشريف ليدير وزارة الإعلام ويقدم إعلاما يرضي نظام مبارك، ويصف مقابلته مع مبارك وولعه بالمقالب، وحب مبارك لحكايات النميمة بين صفوت الشريف وفاروق حسني وحبه لرؤية الصراعات بين وزرائه والتي كان يراها مادة للتسلية، وعن انزعاج مبارك حينما وصف قنديل الإسرائيليين بالسفلة.

الكتاب يتميز بالسلاسة والتجربة الثرية في عالم الإعلام، خصوصاً لأن قنديل كثيراً ما شعر بأنه رجل محظوظ على الرغم أنه لم يرزق بولد ولم  تخل حياته من مفآجات مقيته، لكنه يخبرنا أن الله رزقه الرضا وهبة النسيان، ومكانة مرموقة بين أقرانه وحب كثير من الناس، ومنحه الله الفرصة للتجول في العالم وفي إحدى المرات جمع عدد مفاتيح الغرف الخاصة بالفنادق التي زارها ووجدها 163 مفتاحاً موزعة على خريطة العالم. هذه دعوة لقراءة تفاصيل تلك التجربة الإعلامية الثرية وعلاقاته الكثيرة مع السياسيين والمشاهير، وقد تجذبك تفاصيل قصة زواجه من الممثلة نجلاء فتحي كما حكاها في الكتاب، والكتاب مادة ثرية للحديث عن تمويلات القنوات التلفزيونية وسقفها السياسي وتدخلات السلطة عند تجاوز الخطوط الحمراء.