حماية آثار حلب القديمة المُحَرّرَة – 2013 (الجزء الثاني)

2020.05.12 | 00:32 دمشق

268966_578855792147487_1549264416_n.jpg
+A
حجم الخط
-A

بعد دخول فصائل المعارضة إلى مدينة حلب في يوليو \ تموز عام 2012، انقسمَت المدينة إلى منطقتين: الأولى مُحرّرة تضم معظم أحياء حلب الشرقية إضافة إلى بعض الأحياء شمالي المدينة، مع غالبية مدينة حلب القديمة المُصَنّفَة على قائمة التراث العالمي، والتي تُعَدّ أقدم مدن العالم التي ما تزال مأهولةً بالسكان حتى اليوم.

لكن كل ذلك لم يشفع للمدينة وقاطنيها عند نظام الأسد، الذي بدأ منذ تحرير فصائل المعارضة لها قصفَها بقذائف المدفعية والدبابات، قبل أن يتحوّل إلى الاستخدام الكبير للبراميل المتفجرة، التي لم توفّر الأحياء القديمة بما فيها من مساجد وكنائس وأسواق وبيوت أثرية وغيرها، مسبّبةً دماراً هائلاً فيها ودافعة إيّانا لمحاولة حماية ما نستطيع منها.

في مايو \ أيار عام 2013 تمّ تأسيس الجمعية السورية لحفظ الآثار والتراث في القسم المحرر من مدينة حلب، حيث أشرف على تأسيس الجمعية عدد من طلبة وخريجي كلية الهندسة المعمارية في جامعة حلب، إضافة إلى بعض الآثاريين من خريجي جامعة حلب، وعدد آخر من المهتمين.

اقرأ أيضاً مقال آخر للكاتب "حماية آثار حلب القديمة المُحَرّرَة – 2013"

في الجمعية كنا نعرف أنّ حماية مبانٍ أثريّة كاملة كان ضرباً من المستحيل، وسط إصرار النظام على استخدام أسلحة ذات قوة تدميرية هائلة فيها، لذلك ركزنا عملنا بحسب استطاعتنا على ثلاثة محاور أساسية: الأول كان حماية أجزاء من المباني الأثرية الأكثر أهمية، والأكثر عرضة للتدمير والزوال، والثاني هو توثيق ما نستطيع من المباني الأثرية التي كنا نشك بكونها جميعاً موثقة، ونخشى أن يتم بتدميرها ضياع أشكالها وأبعادها، بحيث يتعسّر ترميمها في مرحلة لاحقة بالطريقة التي كانت عليها، أما الثالث فهو حفظ القطع الأثرية التي يمكن أن تُسرَق أو تٌدمَّر تحت القصف، فكنا نجمعها ونسلّمها أصولاً لمجلس محافظة حلب الحرة.

مشاريع حماية الجامع الأموي

بعد إتمامنا فكّ منبر الجامع الأموي برفقة "شعبة الآثار" التابعة لمجلس محافظة حلب الحرة، وحفظه لدى المجلس وبإشرافه بعيداً عن القذائف وعن قناص تابع لنظام الأسد كان يتقصّد استهدافه مُخَرِّباً أجزاء من سقفيته.

بدأَت شعبة الآثار -التي ساهمَت الجمعية بتأسيسها- بالعمل على مشروع حماية أهم أجزاء قبلية المسجد (مقام سيدنا زكريا – المحراب الرئيسي – باب الوالي)، حيث تضمّن المشروع بناء جدارين الأول أمام المقام والمحراب أبعاده (12م طولاً و5,5م ارتفاعاً و40سم سماكة)، يبعد عن الواجهة الأثرية 20سم كفراغ هوائي يتضمن طبقة عازلة، أما الجدار الثاني أمام باب الوالي فأبعاده (4م طولاً و5م ارتفاعاً و40سم سماكة)، ويبعد عن الواجهة الأثرية 20سم أيضاً كفراغ هوائي يتضمن طبقة عازلة.

حيث شكّل بناء الجدران آنذاك تحدّياً حقيقياً بسبب عزوف معظم العمال عن دخول المسجد الذي كان مرصودا من قبل قوات نظام الأسد المطلّة على قِبليّتِه، بل إن العمل نفسه توقّف غير مرة بسبب الاستهداف المتكرر، ليتم إنجازه أخيراً في سبتمبر \ أيلول عام 2013 بعد عمل دام 9 أيام.

مرفق 1 - حماية الأجزاء الأهم من قبلية جامع حلب الكبير - أيلول 2013.jpg
(مشروع حماية الأجزاء الأهم من قبلية جامع حلب الكبير – أيلول 2013)

 

مرفق 2 - حماية الأجزاء الأهم من قبلية جامع حلب الكبير - أيلول 2013.jpg
(مشروع حماية الأجزاء الأهم من قبلية جامع حلب الكبير – أيلول 2013)

 

كما تم في الجامع الكبير حماية "المِزوَلَة الشاقولية" (رخاميّةٌ معلّقة على الوجه الجنوبي لأحد أعمدة الرواق الشمالي في الجامع)، إضافة إلى المزولة (الساعة الشمسية) في صحن المسجد (مزولةٌ فوق عمود حجريّ يرتفع بقدر متر عن الأرض مُغَطّاةٍ للحماية بغطاء نحاسي محدب)، وذلك من خلال تدعيمها بداية بدشم ترابية، ثم إحاطتها بجدار سماكته 20سم، وسَقفِها بصبّةٍ اسمنتية سماكتها 10سم.

 

مرفق 3 - حماية الساعة الشمسية في صحن جامع حلب الكبير - أيلول 2013.jpg
(مشروع حماية الساعة الشمسية في صحن جامع حلب الكبير – أيلول 2013)

 

مشروع حماية محراب الحلاوية

يعتبر محراب المدرسة الحلاوية -ويعرف أيضاً باسم محراب ابن عديم- أقدم محراب خشبي في مدينة حلب، وهو محراب متميز يعود إلى عهد نور الدين الزنكي، وقد تم تجديده زمن آخر ملوك الأيوبيين "يوسف الثاني بن محمد العزيز" 1245م – 643 هـ.

خلال النصف الأول من عام 2013 تعرض المحراب لعدد من الأضرار، كان منها خلعٌ في طرفه الأيمن فصَلَهُ عن الجدار خلفه بشكل كان معه آيلاً للسقوط، فضلاً عن إشراف قنّاص تابع لنظام الأسد يتمركز في قلعة حلب على موقع المحراب معتاداً استهدافه، حتى أحصينا 39 شظية من جسم المحراب متناثرة حوله.

وهو ما دفعنا في الجمعية -برفقة شعبة الآثار- لإنجاز خطة حماية تمثّلَت ببناء جدار أمام المحراب يغطيه بشكل كامل دون أن يمسه، مستنداً على ركيزتين في طرفيه يدعمهما الجدار خلف المحراب، إضافة إلى ركيزة وسطى بارتفاع 1,5م يقع داخل تقعير المحراب، حيث كان الجدار يبعد 20-30سم عن حصير بلاستيكي وضعناه داخله ليعمل بشكل نسيج متجانس، استند على طبقة من الإسفنج العازل بسماكة 1سم كانت تلتصق بالمحراب.

تم إنجاز عمل مشروع حماية المحراب مطلع شهر يونيو \ حزيران عام 2013، وذلك على مدار 3 أيام بسبب استهداف فريق العمل من قبل قناص القلعة.

 

مرفق 4 - مشروع حماية محراب المدرسة الحلاوية - حزيران 2013.jpg
(مشروع حماية محراب المدرسة الحلاوية – حزيران 2013)

 

مشروع حفظ تحف بيت بوخا

يعتبر د. أدولف بوخة من الشخصيات الثقافية الشهيرة في حلب، حيث ولد في "خان النحاسين" في العام 1897م، وعاش في "دار بوخة" التاريخية التي تعتبر أقدم دور المدينة، والتي تم بناؤها في القرن السادس عشر الميلادي.
فضلاً عن الأهمية الأثرية للدار فقد كان لها أهمية تاريخية أيضاً، حيث كانت الدار مقرّاً لقنصلية البندقيّة منذ العام 1548م وحتى العام 1675م، في حين شغل د. أدولف مركز القنصل الفخري لألمانيا بين عامي 1929 - 1938 م وكذلك القنصل الفخري لبلجيكا منذ العام 1965م، وهو ما جعل الدار أقرب لمتحف بما ضمَّته من كتب وخزفيات وأيقونات وتحف نادرة أخرى، فضلاً عن أرشيف مراسلات رسمية ضخم موجود في غرفة داخلية، كما تضم الدار معرضاً لصور فوتوغرافية التقطتها ابنة د. أدولف، تُعتَبَرُ من أضخم أرشيفات الصور الفوتوغرافية للمدينة.

 

 

مرفق 5 - دار بوخة في مدينة حلب.jpg
(دار بوخة في مدينة حلب)

أواسط أبريل \ نيسان عام 2013 تواصل معنا -في الجمعية السورية لحفظ الآثار والتراث- أحد مقاتلي "لواء التوحيد" الموجودين في قطاعات المدينة القديمة، والمُولَعِين بآثارها بحيث كان يأخذ مسألة حمايتها بشكل جدّي، مخبراً إيانا عن منزل مليء بالتحف الأثرية في المدينة القديمة، والذي كان "بيت بوخة".

زرنا المنزل من فورنا، والذي كان قد تلقّى رصاصة أحرقَت غرفة معرض الصور فيه، إضافة إلى تسبُّبها بأضرار مادية، لنقوم بتوثيق المنزل بشكل كامل، وفُوجِئتُ شخصياً بكمّ التحف الموجودة فيه، والتي يُخشَى أن تتعرّض للسرقة، لذلك اتّفقنا مع الشاب الذي تواصل معنا أن يكتم أمر المنزل حتى نتمكّن من ترتيب عملية نقل مقتنياته إلى مكان آخر.

بعد شهرين تقريباً من زيارتنا الأولى كنا قد تمكّنا من التواصل مع أحد أفراد "عائلة بوخة"، إضافة إلى التنسيق مع لواء التوحيد ومجلس محافظة حلب الحرة، لنقوم بزيارة أخرى للمنزل صُدِمنا فيها بفقدان بعض التحف منه، وهو ما دفَعَنا لتسريع عملية النقل، حيث بدأنا يوم 17 يونيو \ حزيران عملية تغليف كافة القطع التي يجب نقلها، وفرزها ضمن صناديق بإشراف مجلس محافظة حلب، في حين أبقَينا على بعض المقتنيات التي يصعب نقلها ضمن غرفة الأرشيف التي قمنا ببناء جدار حجري يسد بابها، منعاً لعملية سرقة أخرى تطوله.

ثم في اليوم التالي بدأَت عملية النقل بالتنسيق مع الجيش الحر، وتم تسليم المقتنيات إلى مجلس محافظة حلب الحرة، والتي أذكر أنه سلمها لشخص قَدِم إلى المناطق المحررة من المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، وهو شخص تمّ توكيله رسميّاً من قبل "عائلة بوخة" لاستلام التحف الأثرية ومقتنيات المنزل.

 

مرفق 6 - توثيق مصور لبيت بوخة - حزيران 2013.jpg
(توثيق مصور لبيت بوخة – حزيران 2013)

 

استمرّت الجمعية وشعبة الآثار في العمل ضمن المدينة القديمة حتى سقوط حلب، بعد أعوام تفنّن فيها نظام الأسد وحلفاؤه الروس والإيرانيون في تدمير أقدم مدن العالم المأهولة، والتي لم نكن نملك فيها إلا أن نوثّق الجريمة، على أمل أن يأتي يوم يتحقق فيه شيء من العدالة الأرضية بمحاسبة المجرمين.

شاهد أرشيف صور "الجمعية السورية لحفظ الآثار والتراث" عن آثار الدمار في حلب القديمة خلال الأعوام 2013 – 2015