
لم يتردد "أبو فادي"، بعرض بيته للبيع بسعر مخفّض، من أجل شراء جهاز التنقيب عن المعادن. فالأنباء الواردة من القرى المجاورة تقول، إن كثيرا من الناس "قبروا الفقر"، بعد أن استعانوا بهذا الجهاز للكشف عن الذهب والمعادن الثمينة، حيث تنتشر في تلك المنطقة مقابر بيزنطية قديمة، ومواقع أثرية تعود لعدة عصور!.
يضرب أبو فادي، كفاً بكف، ويؤكد بأنه لابد أن يشتري الجهاز، فالمغامرة بالنسبة إليه، أفضل من الارتهان لراتب تقاعدي يقارب 20 دولاراً لا تكفي لشراء أدوية الضغط والسكري التي يحتاجها شهرياً. ويقول: "إنها ضربة العمر يا أخي".
البحث عن الكنوز في أرياف سوريا
وتكثر في الأرياف السورية هذه الأيام، جماعات التنقيب عن الآثار والكنوز، كما تنتشر عبر وسائل السوشيال ميديا، إعلانات بيع الأجهزة الخاصة بالكشف عن المعادن، في وقت يحذر فيه المختصون من تعرض آثار سوريا للنهب والتهريب للخارج عبر الاتجار غير المشروع. لكن الحلم بالثروة عملية مشروعة، بالنسبة لأولئك الذين سرعان ما يخبرونك عن أفضل الأجهزة وأكثرها دقة، وعن أسعارها التي تصل إلى 7000 دولار!.
ومنذ أيام، تمكن الأمن العام، من ضبط مجموعة من المنقبين عن الآثار والكنوز، في ريف حماة الشرقي، حيث قام بمصادرة أجهزة الكشف التي يحملونها، ثم أصدر توجيهات بعدم مشروعية العبث بالمعالم الأثرية والتنقيب عن الكنوز، لكن هاجس "الحلم بالثروة"، لم يتوقف عند كثيرين يشبهون "أبا فادي"، ممن يحلمون بالخلاص من الفقر والتعتير!.
وأدى انتشار التنقيب عن الكنوز، إلى نشوء فئة من التجار ممن يشترون تلك اللقى بمبالغ يقدرونها بناء على خبرتهم. ويقول أحد المنقبين لموقع تلفزيون سوريا، إن جاره تورط ببيع "بومة ذهبية" صغيرة عثر عليها بفضل جهاز التنقيب، بمبلغ 2000 دولار، في حين تبلغ قيمتها أكثر من ذلك بكثير. ويضيف: "عثرنا على نفق طويل، مليء بالمقابر القديمة، لكننا لم نتمكن من التوغل فيه، نظراً لقلة الأوكسجين في الداخل".
"قصص وأساطير"
وتنشأ على هامش مهنة التنقيب عن الكنوز، قصص وأساطير، يتناقلها الناس وينسجونها بكثير من الخيال. فالبعض يقول إن لعنةً أصابت أحدهم، بعد أن دخل أحد المدافن، وخرج مرعوباً فاقداً النطق، وهو ما دفع الآخرين للهروب من المنطقة. كما يتداول السكان، قصصاً عن أشخاص عثروا على جرار من الذهب، لم يخبروا بها أحداً، ويحاولون البرهان على حديثهم بالقول: "ألا ترون كيف ظهرت عليهم علامات الإثراء فجأة؟".
تأجير أجهزة الكشف عن الذهب
مهنة أخرى استُحدثت، بسبب انتشار التنقيب عن الثروات. وهي تأجير أجهزة الكشف بالساعة أو اليوم أو عبر الاتفاق على نسبة مئوية من الأرباح، بعد بيع اللقى المتوقعة. فالفقراء غير القادرين على شراء جهاز الكشف عن المعادن، يمكنهم استئجاره من سمسار، أو صاحب رأس مال، يمتلك عدة أجهزة ويؤجرها، كمشروع اقتصادي يربح من ورائه كثيرا.
لكن أبا فادي، حسم أمره ببيع المنزل، من أجل شراء الجهاز، ويقول لنا إن مؤجري الأجهزة جشعون، فهم يقبضون على الساعة أكثر من 100 ألف ليرة، كما يشارك بعضهم المنقبين في الأشياء التي يعثرون عليها، أو يشترطون بيعها لهم. ويضيف: "الناس هنا لا تعرف القيمة التاريخية للقطع النقدية أو التماثيل التي تجدها، وغالباً ما يبيعونها بسعر أقل بكثير من قيمتها الحقيقية".
اضطر أبو فادي ومجموعة المنقبين، إلى الاستعانة بآراء أساتذة التاريخ في المدارس، لمعرفة أهمية العملات العثمانية مقارنة بالإسلامية الأقدم منها، ومع الوقت صاروا يميزون العصر الذي تنتمي إليه كل قطعة، ويقدّرون سعرها بناء على ذلك. ويقول أحدهم، إن خبيراً في الآثار أكد أن "البومة الذهبية" التي عُثر عليها، تدل على وجود معبد كبير في المنطقة، وكان من المفترض متابعة الحفر، حيث يتوقع العثور على بومة ذهبية أكبر منها، قبل الوصول للمعبد المليء بالكنوز!.
تحذيرات من تخريب الآثار في سوريا
ويحذر الباحث التاريخي، الدكتور عبد الوهاب أبو صالح، من التنقيب غير المشروع عن الكنوز، ويشير إلى ضرره الكبير على آثار البلد وتخريبها. ويقول: "الفلاح الذي علق محراثه مصادفة بصخرة، لم يكن يعرف أنه اكتشف مدينة أوغاريت صاحبة أقدم أبجدية في التاريخ، ولولا بعثات التنقيب المختصة، لكان ضاع هذا الاكتشاف الكبير".
لكن أبا فادي، يبدو غير معنيّ، بكل التداعيات التاريخية والمعرفية التي يتحدث عنها الباحثون، وجلّ همه، هو الخلاص من تبعيته لراتبه التقاعدي البالغ 20 دولاراً في الشهر. ويقول: "أريد العثور على شيء، يعيّشني كريماً، فيما تبقى من سنوات عمري. فلا تحمّلوني وزر ضياع أو تخريب اكتشافٍ، يمكن أن يغير مفهوم البشرية للتاريخ"!.
وفي غمرة انهماك كثيرين بالتنقيب عن الثروات المدفونة، ظهر المهتمون بالبحث عن الذهب الخام، الذين يتحدثون عن نوعية التربة والصخور التي تشير لوجود "عروق الذهب" في المنطقة، ويؤكدون مشروعيتها كمهنة لا تسيء للآثار. هكذا يبدو السوريون حالمين بـ"ضربة العمر"، بعد أن "انقصفت" أعمارهم، طوال 54 عاماً، من الفقر والتعتير!.