حلف مؤكد لكنه غير معلن

2019.07.18 | 00:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

كشفت تحركات الشيخ محمود الحوت في الآونة الأخيرة، من مصر إلى العراق ثم مصر فحلب ثمّ إلى أضنة في تركيا، عن علاقة وطيدة بين الشيخ محمود الحوت، كشخصية تنتمي إلى المدارس الصوفية، حيث الابتعاد عن السياسة والاهتمام بالأمور الدعوية، وبين نظام الاستبداد الأسدي.

لفهم مواقف الحوت، لا بدّ من الحديث قليلاً عن شخصية أستاذه وشيخه، محمد النبهان الذي أسس المدرسة الكلتاوية عام 1964، ضمن سياق تأسيس المعاهد الدعوية الإسلامية الخاصة في كل من دمشق وحلب، وخاصة بعد ما عُرف بأحداث الدستور في حماة، التي قامت كردة فعل حول دين رئيس الدولة الذي لم يذكره الدستور، وحملة القمع التي تعرضت له المدينة بعد التظاهرات والإضرابات التي عمّتها في ربيع 1964.

أسس الشيخ محمد النبهان (وهو خريج المدرسة الخسروية) في ذلك العام أوّل معهد ديني خاص في باب الحديد، في حلب، سمّاه دار النهضة

لاقت المدرسة المذكورة -كمعهد خاص للعلوم الدينية- دعماً قوياً من تجار المدينة وبعض وجهاء الريف، وخاصة من بعض العشائر القريبة من عشيرة الشيخ النبهان (الخضيرات)

للعلوم الشرعية، التي سُميت فيما بعد بـ الكلتاوية، نسبة إلى الجامع المجاور لها، وكان أول مدير لها، ابن عمه الشيخ عبد الرحيم الحوت (1904-1992، وهو عمّ المدير الحالي، محمود الحوت) وكلاهما من عشيرة الخضيرات من الريف الحلبي، الذين هاجروا وسكنوا باب النيرب، الحي الحلبي الذي يمزج بين البداوة وهوامش المدينة.

توالى على إدارة الكلتاوية عددٌ من المشايخ البارزين، من أمثال أديب حسون (والد مفتي نظام الأسد الابن) حتى وصلت في العام 1983 إلى الشيخ محمود الحوت، مديرها الحالي (الذي تخرج من نفس الدار) وما يزال مديراً لها حتى اليوم.   

لاقت المدرسة المذكورة -كمعهد خاص للعلوم الدينية- دعماً قوياً من تجار المدينة وبعض وجهاء الريف، وخاصة من بعض العشائر القريبة من عشيرة الشيخ النبهان (الخضيرات)، مثل عشيرة المجادمة التي أسست في مدينة منبج عام 1977 مدرسة على غرار الكلتاوية، هي "دار الأرقم".

بسبب أصوله الريفية العشائرية، نال النبهان شعبية كبيرة في الريف، كما بين تجار المدينة، وسمّى نفسه "السيد"، في إشارة إلى انحدار نسبه من النبي، وأصبح واحداً من أكثر التلاميذ شعبيةً للسيد محمد أبو النصر النقشبندي الحمصي، الذي أتى إلى المدرسة الخسروية في حلب حيث تلقى النبهان على يديه الطريقة النقشبندية.

لم يعيّن النبهان وريثاً له، لأن وريثه الحقيقي هو المهدي، وقد نُقل عنه قوله: "ما أقوم به في الطريقة هو أن أحضّر لظهوره"، وكان يدّعي: "أنا قادرٌ على كل شيء، غير مقيد، أنا وريث المحمدية".

لم يكن موقف النبهان من السلطة، وهو الموقف الذي تابعه مريده وتلميذه الحوت من بعد عقود، قائماً على أساس الموقف من الحريات والديمقراطية والتنمية، وإنما على اعتقاده أن تلك السلطات هي سلطات علمانية، فالعلمانية بالنسبة إليه وإلى مريديه (حتى الجدد منهم) تتجلى في السماح للمرأة بالسفور وشرب الخمور، وهو ما دفع النبهان، في فترة الحياة الديمقراطية في سوريا في الخمسينيات، إلى أن يُعلن أمام مريديه: "ما لم يقتل أحدٌ الكيخيا، فسأقتله بنفسي"، متهماً رشدي الكيخيا، زعيم حزب الشعب، بأنه من دعاة الدولة العلمانية. كما قام بتمويل من تجار حلبيين بشراء مطعم (المونتانا) الذي كانت تُقدّم فيه المشروبات الكحولية، وحوّله إلى جامع سماه الفرقان، وقد أخذ الحيُّ الشهير والراقي الذي تسكنه طبقة التجار في حلب بالقرب من جامعتها، اسمَه من اسم الجامع.

بعد الحديث عن شخصية سيده وشيخه، يمكن تناول تصريحات وخطب الشيخ محمود الحوت، حيث صار يسهل فهمها ضمن السياق الذي أرساه "السيد"، فهو ضد السلطات التي لا تلتزم بتعاليم الإسلام، وبخاصة ما يتعلق بالحجاب والمشروبات الكحولية وديانة رئيس الدولة وغيرها، أما قمع السلطة وانتهاكها للحريات ونهبها للشعب وإفقاره وتجهيله وإهانتها لجميع مواطنيها، ما لم يكونوا "مواطنين شرفاء"، أي مخبرين، فهي أمور تدعو إلى الفتنة وإراقة الدماء، وهم، الشيخ وتلاميذه ومريدوه، ضدها.

يتفاخر الشيخ الحوت بأنه قابل بشار الأسد وطالبه بأن تغطي زوجته رأسها، وبأن يمنع الدعارة والخمور، وبذلك -كما

صرّح علانية بأن الخروج على الحاكم، وإن كان كافراً، هو حرامٌ، بحجة منع سفك الدماء، وأن تحمل جور السلطان أفضل من جور الفوضى

قال لمريديه- سقط عنهم الواجب الشرعي في مقاومة السلطان الجائر، لأنه تكلم باسمهم، أما مواجهة المتظاهرين، الذين يتهمهم الحوت بأن 90 في المئة منهم لا يصلّون ويسكرون (يتناولون الخمور) ولا يعرفون الله، بالرصاص والاعتقالات وممارسة القتل من خلال التعذيب، وقصف المدن والبلدات والقرى بالصواريخ والطائرات، واستجلاب كل أوباش الأرض من الميليشيات الطائفية، فتلك أمور لا تعنيه، لأنها -كما يعتقد- تحرك "الفتنة"، وتدعو إلى إراقة الدماء......!

كما أنه صرّح علانية بأن الخروج على الحاكم، وإن كان كافراً، هو حرامٌ، بحجة منع سفك الدماء، وأن تحمل جور السلطان أفضل من جور الفوضى. 

ضمن هذا السياق، لم تكن عودة الحوت إلى حلب، بعد زيارته العراق -بناءً على دعوة المجمع الأعلى الصوفي في شباط 2019 والمعروف أنه مقرّب من السلطات الإيرانية التي تسعى بكل ما أوتيت من طاقات لنشر مذهب التشيع في سوريا التي لا تزيد نسبة الشيعة فيها عن 1 في المئة، مما يشكل عقبة أمام نشر وحماية نفوذها، ثم زيارته أخيراً إلى أضنة تركيا- لترتيب "زيارته" لأداء فريضة الحج، كما يدّعي مريدوه، وإنما كانت لتشجيع مريديه من الجمهور الحلبي المتردد بموقفه تجاه الثورة على العودة إلى حلب، وهو الأمر الذي ينسجم مع المساعي الروسية والإيرانية، في إجبار اللاجئين على العودة إلى بلادهم.

وكما تدعي روسيا أن الظروف قد أصبحت آمنة بعد انتصاراتها على "الإرهابيين"، كذلك يَعتبر الشيخ الحوت، كحليف لتجار وصناعيي حلب (الذين قاموا بترميم مدرسة الشيخ الكلتاوية بموافقة من النظام) وكداعية أكثر من مناهض للاستبداد والظلم، أن الشروط قد توافرت لعودة الشيخ ومريديه، والمساهمة في إعادة إعمار مدينتهم.    

قبل الثورة، كانت أشرطة تسجيل الحوت تنتشر بكثافة بين أصحاب المحال التجارية، حيث كانت ترتفع أصواتها بشدة، وأذكر أنني ذات مرة في التسعينيات، كنتُ مارّاً بالشارع المؤدي إلى باب أنطاكيا في مدينة حلب، فوقفتُ أصغي لخطبته المسجلّة وهو يصف عذاب المرأة السافرة في نار جهنم، حيث تُعلّق من حلمتي ثدييها وهي تتلوى في النار، عرفتُ وقتها أن: للأسد والأسدية جنود وحراس غير معلنين، حيث كان الآلاف من المعتقلين في السجون، وعندما انطلقت الثورة السورية عام 2011، وواجهها النظام بالاعتقالات والرصاص والقتل، ولم يصرح الشيخ الحوت بأي إدانة ضد عمليات التعذيب واغتصاب النساء في المعتقلات، تأكدت أكثر من تحالفهما الوثيق، وإن كان غير معلن.