icon
التغطية الحية

حلب وقدها الميّاس

2022.10.04 | 05:55 دمشق

قدود
+A
حجم الخط
-A

لا يمكن لمدينة يتغذى على سيرتها التاريخ أن تكون بوجه واحد. فما بالك إذا كانت تلك المدينة هي حلب الشهباء؟ حلب التي ينظر إليها الحاضر كما ينظر الطبيب إلى صورة شعاعية، وما زال التاريخ في نبض قلبها كتعويذة الفرح.

فالتاريخ نجار ويعرف خشب حلب تماماً. يعرف معنى العقدة فيه، وإلى أين يمكن أن تقوده. ويعرف أنه: (إذا خامر الهوى قلب صب/ فعليه لكل عين دليلُ). فحلب ليست عاصمة مملكة أرمان في العصر البرونزي وحسب، بل عاصمة العموريين في الدولة البابلية الأولى، وعاصمة حضارة أرفاد الآرامية. وليست بيت إله الطقس في الحضارة "الحثّية" وحسب، بل العاصمة الاقتصادية لسوريا في العصر الحديث أيضا، يعرف ذلك ابن العديم، الذي أدرك النزوع الإنساني للمعرفة، فكتب (بغية الطلب في تاريخ حلب) لذلك حلب لم تتوقف عن العطاء، حتى في حزنها تراها وقفت على أعلى غصن في شجرة الوجع السوري، وغنّت: قدك المياس يا عمري! فخاننا البكاء.

لا يوجد مساحة يمكن للإنسان أن يلتقي فيها مع حقيقة الآخرين أهم من مساحة الفن، ففي هذه المساحة لا أحد يخاف من أن يقول ذاته، فقدرة الفن تمثلها قدرته على مخاطبة الحيز الإنساني فينا. وكما برعت حلب بصناعة الدهشة بكل أنواعها، فقد برعت في مجال الفن أيضا. وأمعنت في الإيمان به.

حلب مدينة ولدت في موسوعة، لذلك تراها تستكمل تفاصيلها كل يوم، لأنها لا تريد أن تخون الطرق التي تقودنا إليها، من هذه الدروب، حلقات الإنشاد الغنائي والصوفي، فكلاهما يعتمد الكلام المغنى، حين تنعقد الجلسة، أو حلقة الذكر.

يوجد في حلب أكثر من /240/ زاوية صوفية مسجلة في مديرية الأوقاف. ولا سبيل إلى تعداد جلسات الإنشاد الغنائي، لأنها ثقافة عامة بين الناس، فكل سهرة ممكن أن تتحول إلى حفلة غنائية أو موسيقية. وقد تسربت الألحان بين هاتين الفعاليتين، فالموسيقا هنا.. وهناك.. والاختلاف في المعنى كما يقول المتنبي:

وَإنْ تكنْ تَغلِبُ الغَلباءُ عُنصُرَهَا    فإنّ في الخَمرِ معنًى لَيسَ في العِنَبِ

يسعى المتصوفة إلى الوصول إلى مرتبة الإحسان، والتي هي (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، هذا التسامي يقابله ما يشعر به المغني حين يتوحد مع المقام الغنائي و(يسلطن)، فهو يغيب غيبة الصوفي. والقدود الحلبية هي الأكثر شهرة في الأنماط الموسيقية، سواء استعملت في حلقات الذكر في (الزاوية) الصوفية، أو في حلقة الإنشاد الغنائي. وهي أن يُعتمد على أغنية معروفة، فيُستبدل كلامها على (القدّ)، من كلام دنيوي إلى كلام ديني، أو العكس، حسب مقتضى الحال. مثال ذلك أغنية: (يا إمام الرسل يا سندي/ أنت باب الله ..ومعتمدي) استبدلت كلماتها الدينية، بكلمات غزلية، وصارت: (تحت هودجها.. وتجادلنا/ صار ضرب سيوف يا ويل حالي).

التحقت القدود الغنائية بالقدود الدينية ويمكن ملاحظة ذلك في أي حفلة غنائية حلبية. حتى كلمة (شيخ) والتي هي لقب عادة ما يطلق على رجال الدين يمكن أن تكون صفة لملحن أو موسيقي

كذلك في الرقص، فقد تسرب هذا الفن من الشكل الديني إلى الشكل الدنيوي وأشهر الرقصات الحلبية هي رقصة (السماح)، تلك الرقصة التي ارتبطت بالموشحات، وقد عرفت حلب هذا الضرب من الفن دون سواها من المدن السورية، و(السماح) هو في الأصل نوع من الحركات الدينية التي يقوم بها المريدون في الزوايا الصوفية، يؤديه الرجال، وسمي السماح، لأنه الرقص المسموح به في الأوساط الدينية المحافظة، ولذلك تراه بعيداً عن الخلاعة والمجون. ويقال أن الشيخ المتصوف عقيل المنبجي هو الذي ابتكره، استمر ذلك إلى أن جاء الموسيقي عمر البطش 1885-1950، وعمر البطش هو فنان ومتصوف، كان تلميذاً لدى صالح الجذبة، وأحمد عقيل، وأحمد الشعار، ومنهم أخذ أداء الموشحات، وقد طور رقص السماح، وأخرجه من حلقات الذكر في الزوايا الصوفية إلى المسرح، وأدخل العنصر النسوي على أدائه، ووضع له قوانين جديدة ملائمة لدخوله على المسرح، كأن يرتدي الرجال القمباز والصدرية والشروال، ويشدون أوساطهم بالشال، مع الحذاء الأحمر. وترتدي النساء الألبسة الفضفاضة المحتشمة، مع طرحة الرأس، وغالباً تكون الألبسة النسائية مطرزة بتطريز الأغباني، وتؤدى الرقصات على إيقاع الموشحات والقدود، ولكل وصلة مقامها ورقصة خاصة بها.

وكما يلازم المريد في التصوف شيخه، ليتعلم منه، كذلك في الغناء والموسيقا، فالتلازم بين الأستاذ والتلميذ أحد أهم طرق انتقال التراث الحلبي، من جيل إلى آخر، فهو انتقال شفهي، يقضي فيه الطالب وقتاً طويلاً مع أستاذه، فيتعلم منه، ويحفظ عنه. وفي الحالتين يرافق التعلم الموسيقي، وتدريب النفس الصوفي، حكايات كل حالة، لذلك ترى الذاكرة الحلبية مليئة بحكايات المغنين والملحنين والمتصوفين.

وقد التحقت القدود الغنائية بالقدود الدينية، يمكن ملاحظة ذلك في أي حفلة غنائية حلبية. لا بل حتى كلمة (شيخ) والتي هي لقب عادة ما يطلق على رجال الدين، يمكن أن تكون صفة لملحن أو موسيقي، مثال ذلك: الشيخ عبد الغني النابلسي، والشيخ عمر اليافي، والشيخ يوسف القرلقلي، والشيخ أمين الجندي، وغيرهم الكثير.

هذا التداخل كان سببه اللحن والغناء على اختلاف أنواعهما بين الحالتين الدينية والدنيوية. وهذا ليس جديدا على حلب، فهي عبر التاريخ كانت مهدا للغناء والموسيقى، فقد أنجز فيها الفارابي كتاب الموسيقا الكبير ويعتبر من أهم المؤلفات الموسيقية. واستمر مجدها الفني إلى العصر الحديث حيث كانت مركزا لاختبار كبار المغنين والموسيقيين سيد درويش، كارم محمود، محمد عبد الوهاب، وغيرهم.

تلك هي حلب التي حضرت فغاب كل ما سواها !! حلب التي لم يستطع (ديمستورا) أن يعزف قدّها المياس، فاستبدلها بخطاب ملوّث بدماء الأطفال!