حكاية السوريين مع الـ (يد من حديد)

2020.12.31 | 23:08 دمشق

alhmydyt.jpg
+A
حجم الخط
-A

أعلنت وزارة العدل التابعة لحكومة النظام السوري، الأسبوع الفائت، عن تسجيل حوالي 2150 دعوى قضائية بحق مواطنين تاجروا بالمواد التموينية، وتعاملوا بغير الليرة السورية، خلال سنة 2020.

هذا خبر ظريف جداً، ومعبّر، ويشير إلى أمر خطير جداً، هو تابعية وزارة العدل - وبعض محاكمها - لوزارتي التموين والداخلية، فالدعاوى القضائية التي تتحدث عنها الوزارة كلها تأتي نتيجة ضبوط تموينية، (أو صادرة عن فروع الأمن الجنائي فيما يتعلق ببيع وشراء العملات الأجنبية)، ومعلوم أن هاتين الجهتين هما من الأكثر فساداً وتقبلاً للرشاوى في سوريا المنكوبة بهذه العصابة الحاكمة..

الخبر يوارب باب ذاكرة الإنسان السوري على سلسلة طويلة عريضة من الإجراءات التي يطبقها النظام السوري وتعبر عن طريقته في إدارة شؤون والبلاد، وهي ليست إجراءات فاشلة وحسب، بل إنها غريبة، وتكون في بعض الأحيان مضحكة.

تتلخص هذه السياسة في محاربة الفساد بين التجار والمتعيشين الصغار (فقط)، وتتركز، بشكل خاص، في القطاع التمويني، ويترافق تطبيقها عادةً مع هيصة إعلامية خطابية تقول وتعيد وتكرر إن الجهات المختصة ستضرب بـ يد من حديد على كل مَنْ تسول له نفسه التلاعب بقوت الشعب، وستقطع دابر المخططات التي ترسمها الدوائر الإمبريالية الصهيونية المتأمركة.. إلخ.  

(ملاحظة: ظهر مصطلح "الضرب بيد من حديد" مع أول انقلاب عسكري سوري 1949، وهو مستمر، بنجاح باهر، حتى ساعة كتابة هذه الأسطر).

لا يوجد الآن، في العالم كله، دولة - غير سوريا - تعتمد التعامل بسعرين، أو ثلاثة أسعار، لكل واحدة من السلع الموجودة في السوق.. ثمن الرز، مثلاً، بموجب قسيمة الشراء التموينية (البون)، 6 ليرات، ثمن الرز الحر 10 ليرات، وبإمكانك أن تشتري الرز نفسه من أرباب عائلات تَشَكَّلَ لديهم فائض من المواد التموينية المقننة بثماني ليرات، والرز الحر نفسه، يمكن أن تشتريه مهرباً من لبنان بسبع ليرات، ولكن عليك أن تغامر بنقله، لأنه إذا وقع بيد دورية ما سينخرب بيتك، وكل واحد من هذه الأسعار له قصصٌ وشجون وشؤون. 

يقول الطابور الخامس المساند للنظام الفاشل إن في هذا حكمة لا يعلمها إلا بيت الأسد. الدولار في البنك بـ 16 ليرة، ولكن دولار التصدير بـ 33 ليرة، والدولار في السوق السوداء بـ 42.. المازوت المدعوم بـ 16 ليرة، المازوت المعد للتهريب بـ 27، والمهرب يشتري المازوت بـ 35، ويبيعه للتاجر الفرعي بـ 38، ويصل إلى المستهلك في الدولة المجاورة بـ 42.. وهكذا دواليك.

(ملاحظة: في دول العالم يكون للسلعة الواحدة عدة أسعار حينما تختلف الجودة، فقط).

لماذا تدفع الدولة السورية من ميزانيتها السنوية مئات الملايين من الدولارات لدعم المازوت والخبز والسكر والأرز؟ الجواب الحقيقي علمه عند بيت الأسد بالطبع، وأما الجواب الطابوري الخامس فجاهز، ومترافق، كالعادة، مع خطابة خرندعية تقول: بتوجيه من الـ كذا مذا، الرفيق القائد المناضل فلان الفلاني، ولأجل حماية المستهلك، والطبقات الفقيرة من أبناء شعبنا المعطاء الـ..، فقد حددت وزارة التموين والتجارة الداخلية أسعار السلعة الفلانية على النحو الآتي..

 عندما تبتعد أُذُن المواطن السوري عن مرمى الخطابات الخرندعية، ويصبح في منأى مؤقت عن خطر الاعتقال والتعرض لسين وجيم، يفكر، ويكتشف، بسهولة، أن كل ما يقال له كذب في كذب، فالواقع على الأرض مختلف. وإليك بعض مكونات هذا الواقع:

لقد أوجد شعار حماية المستهلك (الذي تتذرع به السلطة الفاشلة) شبكة طويلة عريضة من اللصوص والحرامية المتلاعبين بقوت المستهلك.. يا سيدي، ببساطة شديدة: لو أصبح سعر المازوت في يوم من الأيام واحداً، موحداً، ومقارباً لسعره في الدول المجاورة، لاستيقظ الناس على إفلاس العشرات من المهربين الذين بنوا من مال الشعب قصوراً، واشتروا أساطيل من سيارات الدفع الرباعي واليخوت، إضافة إلى إفلاس جيش عرمرم من المهربين الصغار الذين يمدونهم بالمواد المهربة (بالمفرق)، وسوف يموت، أو يصاب بالهزال، كذلك، فريق من عناصر الضابطة الجنائية، ودوريات التموين، والسماسرة الذين يقطّعون الدعاوى بينهم وبين السلطة القضائية، وضباط المخابرات الذي يستفيدون مع عناصرهم من ملاحقة المهربين، وربما تختفي، إلى الأبد، سلطةُ الأحكام العرفية.

عندما يقرأ إنسان غير سوري هذا الكلام، لا بد أن يتساءل، باندهاش كبير: وما علاقة الأحكام العرفية بموضوع الأسعار؟

الجواب: اسأل، يا عزيزي، أيَّ مواطن سوري يعطك الجواب الشافي، وهو أن سوريا هي الدولة الوحيدة في العالم (ربما) التي تفرض الأحكام العرفية على عمليات البيع، والشراء، والالتزام بالتسعيرة التي تضعها وزارة التموين..  والتسعيرة قلما تكون متناسبة مع منطق السوق، والعرض والطلب، فتكون إما أكبر من السعر الحقيقي أو أقل، والأمر الطبيعي أن يصنف إقدامُ البائع على البيع بسعر أعلى ضمن بند "المخالفة"، ولكن محاكمنا التي تعاني من سطوة مؤسسات النظام الفاسدة تطورها لتصبح "جنحة"، ثم "جناية"..

ولمزيد من إثارة الدهشة يمكن أن تعلم أن بائع المفرق الذي لا تزيد القيمة الإجمالية لمحتويات دكانه عن خمسين ألف ليرة، فرضاً، إذا باع سلعة ثمنها ست ليرات، بست ليرات وربع، أو إذا أخفى تسعيرة السلعة، تأتي دورية التموين، وتوبخه، شفوياً في البداية، عسى أن يهش وينش ويناولهم "المعلوم"، فإن سها عن المناولة يكتبون بحقه ضبطاً مثل سم الأفاعي، ويحيلونه إلى القضاء، ويصبح من حق القاضي أن يستصدر له حكماً عرفياً مدته ستة أشهر، وللعلم؛ إن الحكم العرفي، يعني، باختصار، حكماً خارجاً عن نطاق سلطة المحاكم، لا يمكن دحضه أو مقارعته بالحجج والبراهين والشهود، ولا يمكن إزالته إلا من قبل الجهة التي أصدرته، في دمشق طبعاً.

إخضاع المخالفات التموينية للأحكام العرفية خلق طبقة أخرى من الفاسدين، تبدأ من الضابط المسؤول عن إصدارها وإلغائها (في دمشق طبعاً)، وقد عرف، خلال تلك الفترة العصيبة،  ضابطٌ وهو من بلدياتنا مختص بالأحكام العرفية، كان له ابن فالح، نبغ في نظم الشعر، ولكن من العيار الثقيل، أصغر واحدة ضمن معلقاته (الطقطوقة) تتألف من مئة بيت، وقد فتح مكتباً خاصاً بتسوية مشاكل الأحكام العرفية التي يختص بها والده، وصار يمشي على الأرض مرحاً، و(طحش على شعراء سوريا طحشة غير شكل)، وتبنته الجهات الثقافية العليا، وصار له اسم وطنّة ورنّة، حتى إنهم عينوه مديراً لإحدى المطبوعات الثقافية الهامة.

وهكذا دواليك.. وأودعناكم بخير.