حكاياتي مع المدن – (2)

2019.10.08 | 16:11 دمشق

f694b30e1c014ece46c8fc9023d5d68a_l.jpg
+A
حجم الخط
-A

هولير (أربيل)، سمعتُ عنها في الكتب والمناشير والأغاني، ومررتُ بها، مرورَ المرءِ بأغنية، صيف 2007، حين اتجهتُ إلى معاقل حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل، وأجريت هناك حواراً مع مراد قره إيلان، وكتبت تحقيقاً صحفيا عن واقع القرى الحدوديّة هناك، تحت القصف التركي والإيراني. وكان الحوار والتحقيق لصالح جريدة "الحياة" وقتذاك. زرت هولير مرّة أخرى سنة 2012، للمشاركة في ندوة حواريّة جمعت مثقفين كرد سوريين، ودورهم في الثورة السورية. وزرتها في المرّة الثالثة، على خلفيّة مشاركتي في مهرجان كلاويج. زيارتي الرابعة لها كانت سنة 2017 على خلفيّة المشاركة في المعرض الكتاب، وتوقيع روايتي الأولى "وطأة اليقين". وآخر مرّة زرتها كانت العام الجاري، للمشاركة في ملتقى بحثّي حواري نظمّه مركز رواد للدراسات. علّمتني هولير (أربيل) كيف تنهض المدن من تحت أنقاض الحروب. وكيف يتحوّل المناضلون إلى تجّار قضايا، وكيف يمكن أن تُفتح البازارات للساسة والمثقفين والكتّاب، وإن من يسترخص نفسه، فإن أبواب أسواق بيع الذمم مفتوحة له. وقالت لي هولير: "لا تحزن يا بني، لا تيأس. سيأتي اليوم الذي يتحرر فيه الكرد من سرطان الخيانات، وسرطان الفساد، وسرطان الاحتلالات، وسرطان الجهل وسرطان عبادة الفرد – الزعيم – العائلة – القبيلة – الحزب. أبقى صاحب رأيك وكلمتك وموقفك، أكون لكَ سنداً وظهيراً وأملاً. حفاظُكَ على نفسك، في منأى عن سموم الإيديولوجيّات والأنفاق والسراديب الحزبيّة والقوميّة الشديدة الرطوبة والعفونة، هو حفاظك على المدن التي أحببتها وأحبّتك".

أثينا؛ عاصمة الفلسفة والمسرح والفنّ والشعر والميثولوجيا والملاحم...، يوم لم تكن هنالك لندن، باريس، برلين وحتى روما. أثينا التي كانت تلقّن الشرق والغرب في الفكر والأخلاق والفنون والآداب والعلوم العسكريّة، عشتُ فيها أربعة أشهر،

 قالت لي بروكسل: "اليوم فتحت لك نافذة في عقلك وخيالك، ورضيتُ لك الحريّةَ بوصلةً ودرباً ودستوراً"

لاجئاً هارباً من نظام الأسد. علّمتني أن المدن العواصم أيضاً تكابر، وتكظم غيظها وغضبها، وتصبر وتصابر، ولكن لصبر العواصم حدود. وقالت لي، قبل أن أغادرها إلى بروكسل: "تحدّى كل من يستحقُّ التحدّي، ولا تترفّع عن الظلم اللاحق بك وبأي شخص أو حجر أو شجر. لا تتواضع مع من يتعامل معك بوضاعة. يداي مغلولتان، ولا يمكنني فعل شيء لك، حتّى لا يمكنني معانقتك، قبل الوداع الأخير. اذهب، ولا تنسَ أن تعود، ولا تتركني أشتاقكَ كثيراً".

كانت بروكسل شاهداً على التحوّل الانقلابي الفكري الذي طرأ على رؤيتي السياسيّة والثقافيّة للأمور والأحداث والتحوّلات ونصوصها، وكان لها دور في خروجي من القوقعة الحزبيّة المسمومة التي كنت قابعاً فيها. لي مع بروكسل قصص كثيرة، عبّرت عن بعضها في روايتي "وطأة اليقين: محنة السؤال وشهوة الخيال". وعلّمتني أنه لا نفع في علمٍ لا يواجه الجهالة، ولا نفع في حِلمٍ لا يتصدّى للنذالة. وقبل مغادرتها إلى آنتويربن في نوفمبر 2011، قالت لي بروكسل: "اليوم فتحت لك نافذة في عقلك وخيالك، ورضيتُ لك الحريّةَ بوصلةً ودرباً ودستوراً. وهذا يكفيك في أن تمضي نحو مزيد من الهواء الحرّ، والخيال الحرّ، والأفكار الحرّة، والعالم الحرّ. من الآن فصاعداً، لا تكتب إلاّ ما أنت مقتنع به، ولا تفكّر إلاّ فيما أنتَ تريدهُ وتسعى إليه، ولا تحلُم إلاّ بما تفتقده من بشرٍ وشجرّ وحجرٍ وأماكن. كنْ مع الحياة، ولأجلها، تكن الحياة معك، ولأجلك".

آنتويربن، المدينة البلجيكيّة الثانية التي عشت فيها زهاء ستة أشهر. علّمتني أن هنالك مدنٌ ربما نحبّها، عقب ابتعادنا عنها. مدنٌ عتيقة، الضجيجُ روحها وزيّها، لحمها ودمّها. وهي من هذا النوع. لا أنسى أنها أضافت إليَّ أصدقاء جدد، وتجارب جديدة، وأطلعتني أكثر على حيوات البشر. ومع ذلك، ما زلتُ غيرَ مشدودٍ إلى آنتويربن بتلك اللهفة وذلك الشغف والحنين اللذين تشدّني إليها المدن الأخرى.

أوستند، المدينة التي اخترتها، لتكون تعويضاً عن بيروت، إسطنبول وأثينا. فور حصولي على الإقامة في بلجيكا، اتجهت إلى هذه المدينة بحثاً عن بيت، ولم يحالفني الحظ في المرّة الأولى. ولم أتخلًّ عن خيار السكن فيها، وفعلت ذلك في تشرين الأول 2012، وغادرت آنتويربن.

أحببت أوستند، وكتبتُ فيها عملي الروائي الأوّل "وطأة اليقين" وأهديتها إيّاه، عرفاناً بالجميل وحبّاً وتكريماً لأوستند (Oostende). وبحسب العديد من الكتّاب البلجيك، كانت تلك أوّل مرّة يهدي فيها كاتب أجنبي كتاباً له إلى جزء من أرض بلجيكا أو إلى معلم من معالمها. وكتبت فيها عملي الثاني "حفلة أوهام مفتوحة" وأهديته إلى الطفل السوري (آلان الكردي) وإلى ضحايا الحقائق وضحايا الأوهام. وأعدت كتابة العمل الذي فقدته في اليونان "الأفغاني".

منحتني أوستند الكثير. وذكرت ذلك في مقالات وتصريحات سابقة. فيها أثمرت حياتي حتّى الآن؛ طفلين، وثلاثة أعمال روائيّة، وديواني شعر نشرا، وديوانين قيد النشر. الآن، أوستند بالنسبة لطفليّ، هي الدرباسية بالنسبة لي حين كنت في عمرهما.

في أوستند، استقبلت أخي عليلاً مريضاً، وفيها ودّعته الوداع الأخير. في كل ليلة تقول لي أوستند أشياء جديدة؛ في الحب، الكتابة، الحزن، التأمّل، والأمل في حياة أفضل. كتبت عنها نصّاً بعنوان "قنينة في عرض بحر الشمال" نشر في كتاب مشترك، أعدّه الصديق الشاعر المغربي – البلجيكي طه عدنان. وكتبت عنها نصوصاً شعريّة أيضاً. كذلك في الرواية الأولى والثانية لي، كان هناك حضور لأوستند. هكذا؛ أعيشها وتعيشني، ونتبادل الأسرار والآمال، وبعض الكآبة أحياناً.

أثناء الطفولة، كنتُ أحاول حفظ أكبر قدر ممكن من أسماء عواصم البلدان، وأذكر أنه حين

المدن دائماً تبقى أكبر من الحروب الكبرى. تموت الحروب، ولا تموت المدن. وأن المدن كالعطور والخمور، كلّما تعتّقت، كلما ازدادت جمالاً وشباباً

كنت أُسأل ما هي عاصمة ألمانيا الغربية؟ أجيب؛ بون. وعاصمة ألمانيا الشرقية؟ أجيب؛ برلين. وما كان يخطر على بال ذلك الطفل الذي كنتهُ أن قدميّ ربما تطأان أرض برلين، وتراها عيناي. كل زيارتي لبرلين، كانت على خلفيّة نشاطات ثقافيّة وندوات حواريّة، ولم تكن بغرض السياحة. مع ذلك، تجوّلت فيها، وعرفتها وعرفتني، وتبادلنا المشاعر والأحاسيس والأفكار؛ أنا وبرلين.

علّمتني برلين أن المدن دائماً تبقى أكبر من الحروب الكبرى. تموت الحروب، ولا تموت المدن. وأن المدن كالعطور والخمور، كلّما تعتّقت، كلما ازدادت جمالاً وشباباً. أخذت برلين بيدي إلى نقطة وسألتني:

  • أتعرف على ماذا تقف قدماك الآن؟ أجبت: لا.
  • هنا بنت الحرب وسموم الإيديولوجيا جداراً، شطرني إلى شطرين. رحلتِ الحربُ، وبقيت سمومها وآثارها. ثم رحلت السموم والآثار والجدار أيضاً. الحروبُ، على بشاعتها وقذارتها وأوحالها، يمكن أن تتعلّم منها الشعوب والأوطان دروساً وعِبَر. وإن إرادة الحياة والحب والخير والعدالة، قادرة على إخماد الحروب ونزع فتائلها.

 القاهرة، كأنّها البحر، كلما شربتُ منها، ازددتُ ظمأً إليها. زُرتُها مرتين. ولكن في كل فيلم أو مسرحيّة أو مسلسل أو رواية أو أغنية...، مصريّة، كنتُ أزورها. وإذا كان الزمن يقاس بالأفلام والروايات والمسرحيّات والمسلسلات والأغاني المصريّة، فلا يمكنني حساب عدد السنوات التي عشتها في القاهرة! مدينة، الغنى فيها فاحش، وكذلك الفقر والفساد فاحش ومتوحّش. لم يكن، ولن يكون هذا قدرها. علّمتني هذه المدينة، أن ضجيج بعض المدن وصخبها، أكثر حكمةً ووقاراً من هدوء مدنٍ أخرى. كتبتُ عن الزيارتين مجموعة مقالات، وكذلك كتبت مجموعة قصائد. القاهرة، ملهمة لمن يريد، وجاذبة لكل مريد، وملوّحة بيديها والمناديل لكلّ حبيبٍ بعيد. حزِنتُ لحزنها، وتألّمتُ مع ألمها، وشعرتُ بغليانها وبنبض الثورات في عروقها، ولو كرهَ الكارهون المستبدّون والفاسدون. ولأنها القاهرة، فقدرها التحرر والحريّة، وليس السجون والاستبداد والمستقبل المغلول المقيّد والمريب. ولأنني هشٌّ أمام المدن، هشاشتي أمام النساء وقيم الحبّ والخير والجمال، قالت لي القاهرة: "سأحتفظُ بصوتكَ، ظلالكَ، خطواتك، لمساتكَ، همساتكَ، أسئلتكَ وهواجسكَ أيّها الغريب، حفاظي على مقتنياتي من آلام وأحلام وهواجس البشر. سأخصص لك ركناً في قلبي، على أن تعاود زيارتي، كلما التاع بك الشوق إليَّ وهاجَ هياجَ البحر والنوارس. عدْ، لا كما غادرتني في المرّة السابقة. وغادر لا كما عدتَ إليّ، بل كما تريد لك القصائد أن تَعود وتُغادر وتُعاود المجيء".

رام الله، سمعت عنها في نشرات الأخبار. ورأيتها على الخرائط. وكان لي شرف زيارتها في تموز الماضي، للمشاركة في الدورة الثانية لملتقى الرواية العربيّة. علّمتني هذه المدينة؛ أن تحقق جزء من الحلم، أفضل بكثير من عدم تحققه. ومع ذلك، لا مناص من أن نحلم، ونحلم، ونحلم، ونسعى إلى تحقيق أحلامنا الكبيرة والصغيرة، ونحثُّ الخطى نحو ذلك.

علّمتني رام الله أن الفجر صديقٌ حميم لمن يسعى نحوهُ ويعيشه، وأن إرادة الشعوب، لا تلين، ولا تقهر أمام مُحتلّ أو مستعمر أو مستبد وفاسد، وأنه "ما بقي عشبٌ تحت حجر أو صخرة إلاّ وطلع وأينع" كما يقول المثل الكردي.

قالت لي رام الله: لا تحزن كثيراً على ناجي العلي، لأنه لم يحظَ بما يستحق من بني جلدته، وبني قضيّته، وبني أحزانه وآلامه وأحلامه. لا تحزن لأنه لم يحظَ بعُشرِ ما حظي به محمود درويش من تكريم في حياته ومماته. دعْ درويش والعلي وشأنهما. سيتحاسبان في العالم الآخر. وغالب الظنّ أن العلي لا ولن يهمّه كثيراً إذا رثاه درويش، أو لم يرثهِ! لا تحزن كثيراً أن حال غسّان كنفاني لا يختلف كثيراً عن حال ناجي العلي! "ليش توجّع راسك بهاي القصص!؟". المستبدّون والمفسدون في الأرض، كانوا وما زالوا وسيبقون كُثراً. والمصلحون كانوا وما زالوا وسيبقون قلّةً قليلةً، وعلى وشك الانقراض. ولكن، كم من فئة قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً بإذن الحبّ والخير والجمال والإبداع والحريّة".

كلمات مفتاحية