حكام مهانون وشعوب مذلولة

2018.10.14 | 00:10 دمشق

+A
حجم الخط
-A

اليوم أكثر من أي وقت مضى تظهر نتائج هزيمة الربيع العربي. الشعوب المقهورة باتت أكثر استضعافاً وإذلالاً وقهراً. الديكتاتورية المتسلطة باتت أشد تسلطاً وقسوة وإجراماً. الفجور والفساد والنهب بات أوسع وأعمق وأسوأ. الشعور بالمهانة تضاعف مع تحالف المهين السلطوي المحلي مع المهين الخارجي.

هذه هي أظلم حقبة تحياها الشعوب العربية، بالتزامن والتلازم مع أحط سياسة دولية وأقذرها. عالم عربي يحكمه قتلة وفاسدون وفاجرون، يتلاعب بهم ويبتزهم ويستصغرهم ويحتقرهم عتاة عالميون وإقليميون من طراز متعصب لئيم كعلي خامنئي، أو من طراز متآمر حاقد كفلاديمير بوتين أو من طراز شعبوي عنصري كدونالد ترامب، أو من طراز يجمع كل هذه الصفات كبنيامين نتانياهو. لا كلمة وافية تصف حالنا. مصيبة رهيبة، أو لعنة تاريخية لا يبدو أننا سنتخلص منها قريباً.

تواطؤ مخيف بين الاستبداد المحلي والاحتقار الإقليمي والعالمي يطحن اليوم شعوب هذه البلاد المنكوبة. سنوات قليلة فقط ذهبت بنا من حلم الحرية والعدالة والكرامة في مطالع العام 2011 إلى كوابيس الإبادة والسحق والإذلال والجوع والدمار العميم.

لا يحتاج منا كلاما كثيرا لنصف حال ليبيا واليمن وسوريا ومصر والعراق ولبنان وفلسطين والبحرين والسعودية والجزائر والسودان والصومال.. لا نحتاج لسرد ما حدث من انقلابات وثورات مضادة وحروب وفظائع وفوضى وعودة إلى أحوال قروسطية مظلمة وبالغة الدموية.

هذه هي أظلم حقبة تحياها الشعوب العربية بالتزامن والتلازم مع أحط سياسة دولية وأقذرها. عالم عربي يحكمه قتلة وفاسدون وفاجرون

حدث كل هذا بتناسق نادر مع تحولات عالمية أفضت إلى سقوط مريع في الأخلاق السياسية إلى حد تحول النظام الدولي إلى شبكة تنافس مافيوية عديمة الرحمة، خصوصاً في النظرة إلى شعوبنا وإلى تقرير مصيرها. الاستهانة الصفيقة بحقوق الشعب الفلسطيني واللامبالاة الخبيثة بمأساة الشعب السوري والازدراء السافر لمعاناة اليمنيين والإهمال المتعمد للحرب الليبية والتجاهل التام للمظالم اليومية التي تفتك بالشعوب والجماعات، بل والتواطؤ على الجرائم الجماعية الموصوفة والاغتيالات المشهودة، والشراكة في صفقات النهب والسطو على الموارد، والسكوت المخزي عن غياب الحريات، والصمت عن الانتهاك الممنهج والشامل لحقوق الإنسان. كل هذا سمات ثابتة في أنظمتنا وفي نظرة العالم إلينا.

كيف حلت بنا هذه النكبات؟ ما هي مسؤوليتنا عن هذا المصير البائس؟ لماذا وقعت هذه المصائب والهزائم؟

من الواضح أن أعداء الربيع العربي ليسوا فقط أولئك الطغاة الذين استهدفهم مباشرة شعار "الشعب يريد إسقاط النظام". ومن الواضح أيضاً أن الخارج الإقليمي لم يكن متفرجاً حيادياً ولا مرحّباً بكلمات "الحرية" و"الكرامة"، والأوضح أيضاً أن الخارج الغربي بعد تجربة العراق استثنانا من سياسات ترويج الديموقراطية وحقوق الإنسان والعدالة الكونية، فيما الخارج "الشرقي" (الروسي تحديداً) لم يكن يبالي إلا بخطط جيوسياسية مناكفة للغرب، لا تتحقق إلا على أشلاء شعوبنا ودولنا.

حتى على مستوى شكليات "وقار" الاستبداد والمستبد، أو مظاهر "قيافة" الاستتباع والتابع، باتت اليوم أكثر إهانة للسكان وللدول، للذات الوطنية المتخيلة أو المفترضة. إن سلوك بوتين الاحتقاري لبشار الأسد، أو سلوك ترامب الازدرائي لملوك وأمراء الخليج، أو سلوك قاسم سليماني الاستباحي للعراق واليمن ولبنان، يدل على إفلاس تام للسيادة والمناعة الوطنية، وتبديد تلك السيادة والمناعة على أيدي هؤلاء المتسلطين المهانين والمذلولين أنفسهم. صحيح أن الإذلال هنا يطال مباشرة حكاماً وسلطات وأنظمة، إلا أنه ما كان ممكناً لولا فداحة عري هذه الأنظمة والحكومات وانفضاحها في جرائمها وارتكاباتها وفقدانها للشرعية وإفلاسها وبالتالي رضوخها لأي ابتزاز وسكوتها عن الإهانة.

هذه هي "صفقة القرن" التي يعرضها حكامنا ولا يتردد العالم البوتيني - الترامبي في القبول بها: خذوا مقدرات وثروات البلاد واتركوني وكيلاً مطيعاً لكم، متسلطاً فاسداً على هذه المجتمعات. وكيل يضمن بقاء الشعوب بلا قدرة على الاحتجاج تحت تهديد السحق أو حتى الإبادة. وهنا تلتقي قناعتان ثابتتان في عقل العالم وفي عقل الاستبداد: شعوب قاصرة لا تستحق مساواتها بالمجتمعات الناضجة، ويجب سوقها إما بالقمع أو بالإبادة.

في وعي اليمين وفي وعي اليسار، في وعي الرأي العام العالمي، وفي وعي الحكومات الأجنبية، كما في وعي "النخبة" الفاشية المحلية، تكونت نظرية مميتة وقاسية واحتقارية. فبرأي هذا الوعي المتعدد، أظهرت الثورات العربية ميلاً سيئاً لدى قطاعات واسعة من السكان ليس فقط إلى "الإسلام السياسي" الذي لا بد أن ينتج أنظمة استبدادية من نوع ديني شديد القسوة والتمييز،  بل ميل إلى "الإسلام الجهادي" المتعصب والطائفي والإرهابي، كنموذج "داعش" في العراق وسوريا وصولاً إلى سيناء مصر وليبيا، ويطال أمن العالم كله.

هذه هي "صفقة القرن" التي يعرضها حكامنا ولا يتردد العالم البوتيني - الترامبي في القبول بها: خذوا مقدرات وثروات البلاد واتركوني وكيلاً مطيعاً لكم

صحيح أن غرباً غير مبال إلا بمصالحه على حساب حقوقنا، تلقف مسألة "الإرهاب" ليتخفف من مسؤوليته الأخلاقية والإنسانية (أوباما قبل ترامب)، وصحيح أن روسيا استثمرت في شعار "الحرب على الإرهاب" كي تبسط نفوذها فوق جثث مئات ألوف السوريين، وصحيح أن إيران استغلت الداعشية من أجل تعميم داعشيتها المضادة، وصحيح أن الاستبداد العربي لوح بهذا الخطر كذريعة لتجديد وظيفته واختراع شرعيته ولكي ينزل إرهاباً شاملاً بشعوبه.. لكن الصحيح أيضاً، وباستثناء تونس، أن ديموقراطيتنا المشتهاة شعاراً وهتافاً كانت بلا ديموقراطيين.

حدث في "الربيع العربي" وفي وقت مبكر تضافر وتحالف بين الرجعيات العربية المعادية للتحرر بالمطلق، والأنظمة المستبدة المعادية للشعوب أبداً، والقوى الإقليمية المناوئة للتغيير دوماً.. ضد التيارات المدنية الديموقراطية تحديداً، وعملت على دعم ونفخ ظواهر التطرف الإسلامي (حتى ضد الإسلام السياسي: الإخوان المسلمين، وبتساهل وتواطؤ وعماء من هؤلاء الأخيرين أيضاً). فرض هذا التحالف الواسع حصاراً تصفوياً ممنهجاً استهدف سحق المجتمع المدني وجماعاته الديموقراطية... كي يخلو "الربيع العربي" من أي مشهد أو اقتراح سياسي مغاير لثنائية "الإرهابي الديني" و"الاستبدادي العسكريتاري". وهذا للأسف هو ما حدث في نهاية المطاف، كان أولى ضحاياه ملايين شبان وصبايا الساحات والميادين والتظاهرات التي هزت العالم، وآخر ضحاياه "الإسلام السياسي" (الإسلام المعتدل) الذي ظن وما زال يؤمن أن القضاء على الديموقراطيين مكسب له. ولا مراجعة ولا اعتراف ولا ندم!

طبعاً، لا شيء مريح لدى المهيمنين على عالم اليوم أفضل من هذه الحال: متسلطون ضعفاء وفاسدون متمادون في الإجرام يخضعون للابتزاز ويهدرون كرامة دولهم كما ثروات بلادهم.. وشعوب موسومة بالإرهاب والتعصب والطائفية كارهة للبشرية وبلا قيم إنسانية مشتركة مع الشعوب الأخرى، جاهلة وحاقدة تستحق القمع والاحتقار والازدراء، ما يسهل إخراجها من الحيز الإنساني وتركها لمصيرها البائس.

هذه السياسات التي ظنت أنها سحقت "الربيع العربي" وحده، هي في أثرها ومفاعيلها أصابت ديموقراطيات الغرب بالوهن والضعف والتصدع الأخلاقي، وأتاحت لأنظمة قمعية وعدوانية كروسيا وإيران أن تمعن في التخريب وفي تعميم الكراهية والخوف، ومنحت إسرائيل مبررات إضافية لمشروعها الاستعماري الاستيطاني وتصفيتها للقضية الفلسطينية، كما شجعت ظواهر شعبوية وعنصرية في كل العالم، وأعدمت الثقة بمستقبل العولمة وبالنظام الدولي وأعرافه.

بهذا المعنى، وبحكم قانون الطبيعة وقانون التاريخ، بل بحكم "الوضع" البشري، المسار الوحيد الذي سيسلكه أولئك الملايين من الشباب العربي هو استعادة بلادهم، حقهم بالحياة، واسترداد ثورتهم في الحرية والكرامة والعدالة، لا من أجل شعوبهم وحسب، بل من أجل عالم أفضل. فكل مصائب اليوم تدفع بالقسر والجبر شعوب المهانة والإذلال كي تنتفض مرة أخرى.. لا خيار آخر إلا الانتحار االمديد لنا والظلام المخيف للعالم.