حق العودة

2019.03.25 | 23:03 دمشق

+A
حجم الخط
-A

مثله عاش الكثيرون منا على أمل أننا سنعود يوماً ما، يخبرني جدّ صديقتي الذي دخل عقده الثامن مؤخرا، وهو يتحسس شيئاً يصدر صوت اصطكاك معادنٍ في جيب معطفه، يخرج يده ويضعها على على الطاولة أمامه تاركاً فوقها مفتاحين متوسطي الحجم، إنها مفاتيح منزله في جورة الشياح، الحيّ الحمصي العتيق الذي بات خراباً في حمص المدينة التي طُعنتْ من الخلف.

تُوفيتْ زوجته حسرةً وقهراً وفق ما روى لي بما تبقى من ذاكرته، ففي عقدها السابع لا تود أي امرأة مغادرة منزلها إلى مصير مجهول، ولا ترغب حتماً مفارقة مسكنها وذكرياتها، إلا في حال كان الموت متربصاً بهم في باب منزلهم أو في داخل أسرّتهم، وربما لم تكن لتمتلك القوة الجسدية والنفسية على احتمال نزوح لا زمن محدد لانتهائه.

منذ مدة قصيرة عرفتُ أيضا أن كثيراً من السورين في مصر والأردن ولبنان ودول الخليج أيضاً عادوا إلى الديار، إنه حلم يراود الغالبية

كثيرون منا كانوا يودّون وضع حدٍّ لشتاتهم ونزوحهم الذي لم يكن لينتهي، وبعضنا خرج إلى شتات جديد بحثاً عن وطن بديل

العظمى منا إذن! فللأوطان لعنةٌ تلاحقنا أينما حلّت رحالنا!! ربما قد يرى البعض ذلك حنيناً لا بدّ منه، يعيدنا إلى التراب الذي خُلِقنا منه والذي اقتُلعتْ منه أجسادنا كأننا نبتة سامّة رموا بها خارج الحدود.

كثيرون منا كانوا يودّون وضع حدٍّ لشتاتهم ونزوحهم الذي لم يكن لينتهي، وبعضنا خرج إلى شتات جديد بحثاً عن وطن بديل، يشبه ما حلمنا به كثيراً وكتبنا له وتغنينا به، وطنٌ مات كثيرون منا فداء له، وكنا مستعدين لبذل الغالي والرخيص في سبيله لولا أن سكينه سبقتْ أحلامنا وطعنتنا في صبا تلك الأحلام الغضة.

ربما ليس من الصعب التكهن بمصير من فكر بالرجوع أدراجه، محاولاً ردم سنوات النزوح تلك، فعاد وهو "يعلل النفس يالآمال" بعيش رغيدٍ وعودٍ أحمد، مستجيباً لنداء روحه الداخلي، ولدعوات أقاربه الذين كان من نصيبهم البقاء على قيد الحياة طوال تلك السنوات رغم الموت المستمر، فبقوا على أمل انتهاء الحرب وربما كانوا أقل حظا فلم ينجحوا بتسلل تلك الحدود المغلقة في وجوههم حيثما اتجهوا.

عادوا ليلتقوا بركام ماضيهم بدلاً من أن يجدوا منزلاً خلفوا فيه ذاكرتهم، ومنهم من لم يكن محظوظاً كفايةً فاقتادوه إلى الظلمات كالعادة بمجرد أن وطأت أقدامه التراب، فكان مصيره الموت من فرط الاشتياق إلى بلادٍ بات كل ما فيها خراباً.

نحن في كل الأحوال إذاً ماضون نحو حتفنا؛ اشتياقاً، أو عودةً، أو جوعاً بعد عودة.

الغريب في الأمر أن من بقوا في الديار مازالوا يذوقون مرارة السنوات العجاف التي أفقرت الأرض والأبدان، ويحلمون بالهروب خارج تلك القضبان، في حين أننا ما فتئنا نحلم -نحن الملعونين بالاغتراب- بالعودة، متناسين كل الموت الذي عرش على ما تبقى من جدران صماء.

عن نفسي -ومن وجهة نظري الشخصية- لم يكن الوطن أمّاَ رؤوماً، إنه زوجة أب تلذذت بتعذيب أبناء زوجها، ولم تتوانَ عن فعل أي شيء يقصيهم بعيداً عن أسوار مملكتها، وأن تلك الأرض التي أشتاق لطينها الذي تكونتُ من لبنته، لم تكُ إلا شيطاناً أخرس ولم تصرخ بألم من ابتلعتهم في جوفها.

عن أي وطن نتحدث هنا إذاً نحن المنفيّين؟ وبأي وجه سنعود إذا ما فكرنا في ذلك؟ هل بالوجه الذي خرجنا به فارّين دون أن نستطيع الالتفات حتى لنلقي نظرة وداع؟ أم بالوجه الذي صنعته الحرب وبخطوط التجاعيد الذي حفرتها سنوات المنفى فكانت الشاهد الوحيد على معاناة أغمض العالم عنها عينيه؟

أسأل نفسي ذلك مستنكرة وأنا أتابع أخبار الحراك السياسي في الجزائر وأشعر بالغبطة تجاههم، وأخشى أن يشي الكون بغبطتي هذه، فتنقص

نستطيع في بكائية جلد الذات هذه، أن نسرد كثيراً من الحكايات المؤلمة، التي تصلح لتكون فيلماً يؤرخ لسنوات العذاب التي عاشها ومازال يعيشها ملايين السوريين

من فرحهم بانتفاضتهم تلك، وبشاشات التلفاز وكاميرات الصحافة التي تنقل أخبارهم العاجلة، بينما كان الهاتف الجوال في سوريا وحده تهمة لها أن تزجّ بنا في أقبية لا نافذة فيها ولا ضوء.

أفرح لجموع الأعداد التي تعبر الشوارع كنهر لن يتمكن أحد من إيقاف مساره أو تجفيفه، بينما أصبحت شوارع بلادنا حراماً على أقدامنا.

نستطيع في بكائية جلد الذات هذه، أن نسرد كثيراً من الحكايات المؤلمة، التي تصلح لتكون فيلماً يؤرخ لسنوات العذاب التي عاشها ومازال يعيشها ملايين السوريين المهمشون والمنفيون والشهداء والمعتقلون والمحتجزون والمفقودون.

للأمانة، إنني وفي جزء صغير من داخلي، أشعر أنني ممتنة لذلك الجدّ ولكثيرين مثله، ممن ما يزالون يربون أولادهم على حلم العودة، كونهم ما زالوا يحملون بريق أمل، رغم أنني أشعر بإحباط لمجرد فكرة أنهم قد يفقدون ذلك البريق في اللحظة التي يدخلون فيها البلاد، بعد أن يشاهدوا طريقة تعامل الجهات الأمنية معهم، لأنهم موصومون بالخيانة سلفاً، أو حتى بعد أن يستقروا في بلاد ما زال حتى الآن نصف سكانها تقريباً يهللون لقصف مدينة إدلب على سبيل المثال بالفوسفور من قبل روسيا، أو يزعمون أنهم في حالة قضاء على الإرهاب، أو يصفقون لانتخابات إدارة محلية مبشرة بالديمقراطية، بينما تتفرغ وسائل الإعلام الهزيلة لبث برامج الطبخ وأخبار الأبراج في نشراتها الصباحية.

كلمات مفتاحية