حصيلة أولية للعملية العسكرية التركية في سوريا

2019.10.20 | 19:47 دمشق

20191017_2_38790488_48554264.jpg
+A
حجم الخط
-A

مع تعليق العمليات العسكرية لخمسة أيام، وفقاً للتوافق الأميركي – التركي، يمكن تقييم ما حدث إلى حينه لجهة الرابحين والخاسرين وما ربحوه وخسروه. لكنه يبقى تقييماً أولياً لعملية سياسية لم تنته إلى إرساء توازنات جديدة بعد. ربما تشكل القمة المرتقبة في سوتشي، يوم الغد، بين بوتين وأردوغان نقطة مفصلية في تحديد التوازنات الجديدة، كما في تحديد وجهة التفاعلات المقبلة في سوريا، وشمالها بصورة خاصة. ذلك أن نهاية الأيام الخمسة من الهدنة المؤقتة ستتزامن أيضاً مع القمة المذكورة، وما يعنيه ذلك من احتمالات الوصول إلى وقف إطلاق نار نهائي أو استئناف القتال بين القوات التركية والفصائل التابعة لها من جهة، وقوات قسد من جهة ثانية.

وتعود أهمية القمة، قبل الاعتبار المذكور، إلى أن الكلمة الفصل في تحديد مصير "المنطقة الآمنة" أو "ممر السلام" كما تسميها أنقرة، باتت في يد موسكو التي تفردت بالتحكم في الشؤون السورية بعد القرار الأميركي بالانسحاب منها. موسكو التي حافظت على

"التركة الأميركية" بالمعنى الجغرافي قد تم تقاسمها بين النظام الكيماوي وتركيا، بعد اتفاق حميميم بين الأول وقسد

صمتها إزاء الموضوع، كررت موقفها المتواتر في تصريحات الناطقين باسمها بشأن وجوب انسحاب "جميع القوات الأجنبية من سوريا". سنرى ما هو موقفها المخصوص بشأن العملية التركية والتصور التركي حول "ممر السلام" الذي يدور حول تفرد القوات التركية بتأمين المنطقة وإقامة مساكن لإيواء اللاجئين السوريين في تركيا.

مهما كانت الزاوية التي ننظر منها، سنرى أن "التركة الأميركية" بالمعنى الجغرافي قد تم تقاسمها بين النظام الكيماوي وتركيا، بعد اتفاق حميميم بين الأول وقسد. صحيح أن النظام لا يملك ترف الزج بقواته المحدودة في تلك المنطقة، لكن "شرعيته" المستمدة من مبدأ "السيادة" هي ما تمنحه القوة إزاء أنقرة، مهما كانت مفاهيم الشرعية والسيادة أقرب، في حالة النظام، إلى كاريكاتير مثير للازدراء. كما أن تلك "الشرعية" المزعومة تملك قوتها المادية من الحليف الروسي الذي يدافع عنها وينطق باسمها. وعملياً روسيا هي التي ورثت، مع تركيا، التركة الأميركية أو فراغ القوة الأميركي.

ما هي حصة تركيا؟ وهل يمكن اعتبارها رابحة؟ نعم، هي ربحت ميدانياً بالتأكيد بضم بقعة جغرافية كبيرة نسبياً إلى مجال نفوذها الإقليمي داخل الأراضي السورية، وإن كانت أقل بكثير من المساحة التي أعلن أردوغان أنه يستهدفها، وذلك بصرف النظر عن المصير المستقبلي لهذا الربح. لكنها، بالمقابل، خسرت الكثير على المسرح الدبلوماسي، فعجزت عن إقناع أحد بمسوغات عمليتها العسكرية، بل لاقت رفضاً دولياً واسعاً لتلك العملية، كان من ثمراتها رضوخها للطلب الأميركي بتعليق العمليات العسكرية. ذلك أن أركان الحكومة التركية، وعلى رأسهم أردوغان، أعلنوا مراراً أن العملية لن تتوقف حتى تدمير "المنظمة الإرهابية"، في حين أن الاتفاق الذي جرى مع الوفد الأميركي برئاسة نائب الرئيس مايك بنس في أنقرة، يقضي بانسحاب "وحدات الحماية الشعبية" إلى خارج المنطقة الآمنة التركية الممتدة من تل أبيض إلى حدود مدينة رأس العين فقط.

ولا بد من الإشارة إلى نقطتين يمكن اعتبارهما رمزيتين، بخصوص الاتفاق المذكور: فمن جهة أولى اجتمع أردوغان مع الوفد الأميركي، بعد إعلانه أنه لن يستقبل بنس في رد متأخر على إهانة ترمب له في الرسالة الفضائحية الشهيرة. ما كان ممكناً، على أي حال، توقع رفض اجتماع أردوغان ببنس، لكن تورطه في التصريح بعدم استقباله هو الذي أضعف موقفه وسجل نقطة سلبية لم يكن بحاجة إليها.

والملاحظة الثانية هي تصريح أردوغان وأركان حكمه بأنهم "لن يتفاوضوا مع منظمة إرهابية". فاتفاق أنقرة هو، في حقيقته، اتفاق بين تركيا وقسد على وقف إطلاق نار مؤقت ومحدد. فقد كان الوفد الأميركي على تواصل مع قيادة قسد أثناء مفاوضاته مع أنقرة. كان الأتراك بغنى عن التصريحات المذكورة، إذا تذكرنا أن الحكومة التركية سبق وتفاوضت مرات، في السنوات السابقة، مع قادة حزب العمال الكردستاني المصنف إرهابياً ليس لدى تركيا فقط، بل كذلك لدى الولايات المتحدة والدول الأوروبية أيضاً. وبالأحرى حين يتعلق الأمر بقسد أو "وحش" (وحدات حماية الشعب) اللتين تتفرد تركيا باعتبارهما منظمتين إرهابيتين، مقابل تعاطف دولي معهما بسبب دورهما في الحرب على داعش.

ليس هذا وحسب، بل أشار عدد من المحللين الأتراك إلى نقطة مهمة فحواها أن المسألة الكردية في تركيا تدوّلت بقوة بمناسبة العملية العسكرية التركية، أي تحولت من موضوع إقليمي إلى موضوع دولي، من المحتمل أن تكون له نتائج سياسية، على المديين

خسرت قوات سوريا الديموقراطية مشروع الإدارة الذاتية بعد اتفاق حميميم مع النظام. وسيكون مصيرها السياسي، من الآن وصاعداً، بيد روسيا

المتوسط والطويل، تتعارض مع الأهداف التي وضعتها القيادة التركية لعمليتها العسكرية. فبدلاً من القضاء على المنظمة "الإرهابية" ارتفع منسوب التعاطف الدولي معها، وبخاصة بعدما تخلى عنها الرئيس الأميركي على الضد من الميل العام لدى وزارة الدفاع والكونغرس بحزبيه الجمهوري والديموقراطي.

بالمقابل خسرت قوات سوريا الديموقراطية مشروع الإدارة الذاتية بعد اتفاق حميميم مع النظام. وسيكون مصيرها السياسي، من الآن وصاعداً، بيد روسيا التي من المحتمل أنها لن تسلم رقبتهم للنظام بصورة تامة، لكنها ستضع حدوداً متواضعة لطموحاتهم السياسية، مع التركيز على فرض سيطرة النظام على كامل الأراضي حتى لو كان ذلك بواسطة قوات قسد بعد تغيير بزاتها العسكرية لتكون جزءاً من قوات النظام.

الموضوع الثاني الذي يحتمل أن يكون موضع اهتمام قمة بوتين – أردوغان في سوتشي، هو حسم مصير منطقة خفض التصعيد الأخيرة في إدلب وجوارها القريب، بما في ذلك تقرير مصير "هيئة تحرير الشام". فبوتين الذي تلقى هدية كبيرة من ترمب في شرقي نهر الفرات، سيكون مستعجلاً على الانتهاء من موضوع إدلب ببسط سيطرة النظام على المنطقة، ليكون بوسعه إعلان "النصر النهائي على الإرهاب" في سوريا، بالتزامن مع بدء اجتماعات "اللجنة الدستورية" في جنيف في نهاية الشهر الجاري.

لا يعني ذلك أن كل ما يتمناه بوتين سيتحقق بهذه البساطة. من كان يتوقع اندلاع انتفاضتين شعبيتين في كل من العراق ولبنان؟ ففي هذه المنطقة من العالم يجب أن نكون على استعداد دائم لمفاجآت تقلب الطاولة على الأوضاع القائمة.