حصار حمص القديمة برواية النظام

2021.03.22 | 05:46 دمشق

00.jpg
+A
حجم الخط
-A

أقصى طموحات الإعلامي والأديب عيسى إسماعيل هو أن يكون لائقاً باسم جده الذي يحمله، المعروف في قرية «عرقايا» بريف حمص، قرب «القبو»، بوصفه أحد مجاهدي ثورة الشيخ صالح العلي ضد الفرنسيين. وعنه تروى حكايات أورثتها الجدة لحفيدها ففتحت أمامه عالم الأدب الذي خاضه، كهواية، إلى جانب عمله في تدريس اللغة الإنكليزية. فنشر في «اتحاد شبيبة الثورة» ثم في منابر «اتحاد الطلبة» بجامعة دمشق إبان دراسته، ثم في مجلة «جيش الشعب» الصادرة عن وزارة الدفاع، حتى حاز جائزة «الإدارة السياسية» للجيش في القصة القصيرة، قبل أن يصبح مراسلاً لجريدتَي «البعث» و«الثورة» الرسميتين، على التوالي، في حمص التي تولى أخيراً رئاسة تحرير جريدتها المحلية اليومية «العروبة» عام 2009 عندما «ارتأت القيادة السياسية ووزارة الإعلام» ذلك.

 

01_3.jpg

 

خلال ما يقرب من أربع سنوات في منصبه هذا نجح عيسى إسماعيل، كما يقول، في زيادة معدل بيع الجريدة الحكومية التي أخذت دورها «الوطني» الموالي منذ اندلعت «الأزمة» عام 2011. مما دفع وزارة الإعلام إلى تكليفه برئاسة وفدها إلى جمهورية الصين الشعبية، في أيلول من ذلك العام، للمشاركة في مؤتمر التعاون الإعلامي العربي الصيني الذي دام 25 يوماً.

في العام اللاحق، 2012، سيقال إسماعيل من رئاسة التحرير، ثم سيُحال على التقاعد بعد سنوات بحكم العمر، وسيكتفي بنشاطه كعضو في «اتحاد الكتاب العرب» وبوظيفته كعضو مجلس إدارة «رابطة الخريجين الجامعيين بحمص»، ومسؤول النشاط الثقافي الذي ينظمه دورياً في مقرها بالكورنيش، جانب بروستد خير الله.

لكن المشاغل التي فرضتها عليه هذه المهمة قليلة. فما الذي يستغرقه من الوقت تنظيم ملتقى شعري بمناسبة ذكرى ثورة الثامن من آذار المجيدة أو تقديم محاضرة «العلمانية الإنسانية» للعميد الركن رجب ديب؟ ولذلك قرر أن ينتقل من كتابة القصة والمقالة الصحافية النقدية إلى عالم الرواية، لا سيما بعد أن تتبع حكاية الأحياء القديمة من مدينة حمص عندما سيطر عليها «الإرهابيون» وحوصرت خلال الأعوام 2012 حتى 2014. وعن هذه التجربة المريرة نشر روايته الأولى «رصاص في حمص القديمة» عام 2018.

 

02_1.jpg

في متابعة لوكالة «سانا» الرسمية لصدور الرواية قالت إنها تتحدث عن «الجرائم التي ارتكبتها التنظيمات الإرهابية... ونجاح أبناء المدينة بفضل تلاحمهم بإفشال مخططات هذه التنظيمات». وأثنى مقال في جريدة «البعث» على «مستوى السرد ومتانة الحوار» فيها، ومدح «الاختزال المدروس بعناية فائقة من حيث البناء الدرامي للفعل ورد الفعل، وللحوار الممنهج» لهذه الرواية «التوثيقية والواقعية والتاريخية والتعبيرية». التي رأى فيها مقالٌ ثالثٌ، نُشر في جريدة «العروبة» ذاتها، «عملاً أدبياً متميزاً في أدب الحرب على سوريا»، يعكس أحداث حمص القديمة ومأساتها «أثناء استيلاء الدواعش عليها» (كذا).

أما جريدة «البناء» البيروتية، السورية القومية الاجتماعية، فقال ناقدها إن إسماعيل سجل «نقطة في أرشيف الضمير الإنساني» في هذا العمل الذي «جاء كقذيفة من عيار التدمير الشامل لكل أضاليل أفاعي الشر المتربصين بالوطن المتسامي نحو الضياء»، حتى أتى رجال الجيش «رشقة نور على ظلال الليل، بعد أن تأبطوا الوطن قرآن قداسة وائتزروا الشهادة جسر عبور». وهي تعابير أجمل حتى مما قاله الروائي في اللقاء الذي أجري معه على شاشة «المركز الإذاعي والتلفزيوني في محافظة حمص»، عندما بيّن أن روايته تتحدث عن سيطرة الإرهابيين على أحياء في المدينة قبل أن «يكنّسهم» الجيش الباسل منها. أما موقع «فينكس»، الذي يعرّف عن نفسه بأنه «موقع سوري أخباري شامل وعلماني مستقل»، فنشر مقالة عن الرواية تصفها بأنها تتناول حمص كنموذج عن «المدن السورية التي شهدت، ولن تنسى، وأبطال من غباء تجمعهم اليوم إدلب».

منذ عام 2015 وحتى الآن نشر ملوك عشر روايات فوجئ بها «المشهد الأدبي في سوريا» على حد تعبير إسماعيل

لكن اللقاء المفتوح الذي أجرته إذاعة «زنوبيا FM» الحمصية المحلية مع الروائي كشف عن عرّاب مجهول/ معلوم هو عبد الغني ملوك الذي يطلق عليه بعض مثقفي المدينة لقب «نجيب محفوظ حمص»، على حد تعبير إسماعيل. وإذا كان كثيرون لم يسمعوا بملوك فذلك عائد إلى سيرته الذاتية غير المألوفة منذ تخرّج، ضابطاً مظلياً، عام 1968، وقضى في السلك العسكري، الذي أحبه وما يزال، عشرين عاماً أسس خلالها مجلة «العرين» التي نطقت باسم «الكلية الحربية» لأربع سنوات ولاقت «استحساناً وإقبالاً». ثم انتقل إلى سلك المحاماة الذي عمل فيه حتى أحيل على التقاعد بالتزامن مع اندلاع «الحرب الكونية» التي قرر أن يحاربها بقلمه عاكفاً على كتابة الروايات، فكان أولها «أحلام الذئاب» التي استلهمها من مقولة «للقائد الخالد حافظ الأسد» في ضرورة عدم السكوت عن الخطأ. ومنذ عام 2015 وحتى الآن نشر ملوك عشر روايات فوجئ بها «المشهد الأدبي في سوريا» على حد تعبير إسماعيل مجدداً، وصدر معظمها عن «دار الينابيع» التي أخذ ملوك وكالتها من دمشق، قبل أن يؤسس منبره الخاص.

وإلى «دار الرواية الحديثة»، التي يتخذها عبد الغني ملوك مقراً للقاء أصدقائه وبيع الكتب وتأجيرها، توجه عيسى إسماعيل حاملاً مخطوط روايته، بكل وجل المبتدئين وارتباكهم كما نفترض. وهناك أرجأه ملوك حتى يقرأ العمل ويعرضه على «لجنة أكاديمية» رأت، فور القراءة الأولى، أن هذه الرواية «رائعة جداً»، وتشكّل «قفزة نوعية في حياة هذا الروائي الكبير»، على حد تعبير ملوك الذي قرر نشرها في طبعة أولى ثم ثانية.

ترتكز «رصاص في حمص القديمة» على شخصية محورية هي إيمان، طالبة الصيدلة التي اختطفها المسلحون على حين غرّة واختلفوا عليها؛ راكان البراك وأبو هريرة وأبو حفصة، قبل أن يحسم راكان النقاش؛ لأنه، أولاً، «أمير حمص القديمة»، وهو، من جهة ثانية، الشخص الذي رفضته إيمان وبصقت عليه عندما كان يلاحقها، يوم كان فتى صائعاً ضائعاً قبل عامين. وقال: «أنا لست أنانياً.. كلنا نشتهيها بالحلال.. كلنا إخوة.. وأنتم مساعديّ.. أرى أن أقضي وطراً منها ثم أطلقها ثم تكون لأخينا أبي هريرة.. ثم يطلقها فتصير لأخينا أبي حفصة..»، فأجاب الاثنان بصوت واحد «على بركة الله..».

وهو ما سيحدث إذاً. سيقضي راكان مع إيمان أسبوعين وحشيين قبل أن يكبّر عليها ثلاث مرات فتصبح زوجة لأبي هريرة الذي كان أسوأ من سابقه، يأتي لها بالطعام كل عدة أيام. حتى طلّقها فتزوجها أبو حفصة بعد أن كبّر ثلاثاً أمامها، لكنه كان أقلهم نذالة لأنه يعرف في قرارة نفسه أن هذا الزواج باطل ولو أفتى به الشيخ بلال، صديق راكان، وهو أكثر من ضاجع نساء بالحرام بالتكبير ثلاث مرات، متباهياً أمام مجموعته بأنه زير نساء، نهمٌ للطعام و«مستلزماته» التي صاروا يعرفون أنها تعني الخمر التي اتفق معهم على تسميتها بالحليب.

ترك راكان الدراسة في الصف الخامس بعد أن اشتكى منه أساتذته كثيراً لأنه مشاغب وكسول. وراح يساعد أباه كبائع للمازوت في الحي. قبل أن يشرع بالتغيب عن المنزل والعودة مخموراً. أما بلال فكان في السابعة عشرة عندما نصّبه المسلحون «شيخاً» بعد أن طردوا إمام المسجد، في صيف 2012، وألقى هذا الصبي «خطبة بلغة عامية هاجم فيها أركان الدولة» وقال إن الحرية هي أن «نبني المساجد في كل الشوارع». لكن من تصدى له هو أبو راكان نفسه، مذكراً إياه بصداقته الوثيقة بابنه، إذ تركا الدراسة معاً، وضبطهما يشربان الخمر، ودخلا سجن الأحداث بتهمة سرقة أحد المحال. لكن بلال يكفّر والد صديقه راكان طالما أنه حليق، مهدداً إياه بالثورة التي ستقلب البلاد رأساً على عقب.

استمر بلال في احتلال المنبر، يقرأ بشكل متعثر خطباً يعطيه إياها الشيخ الخالدي. وهو رجل سعودي ظهر فجأة في حمص القديمة في نيسان 2011، وراح يمنح المال للناس كي يتظاهروا «ضد الدولة» وهو يقول: «هذا من مال مولانا خادم الحرمين.. نريد الثواب لا أكثر من أجلكم كي تتخلصوا من هذه الحكومة الكافرة..». يسارع بلال وراكان إلى القول: «أثابك الله يا شيخ». فيأمرهما الخالدي، بعد أن يتنحنح بالطبع، بإحراق المدرسة «لأنها تعلم الكفر»، والمستوصف «لأنه عندما يكون إيماننا صحيحاً تكون أجسادنا صحيحة».

على المقلب الآخر هناك عبدو السكاف، الشاب الوسيم الأنيق، «رأسه شامخ، عيناه كعيني صقر»، الذي كانت تربطه بإيمان علاقة حب بريئة حتى اختفت وغادر، مع عائلته، الحي الذي أسره المسلحون واتخذوا أهله رهائن بشرية، واستأجروا منزلاً في حي عكرمة الجديدة، غير بعيد عن الجامعة، كي تتسنى لعبدو فرصة متابعة دراسته في كلية الهندسة نهاراً، وفي الليل يرتدي بزّته العسكرية ويحمل بندقيته الآلية ويذهب إلى أحد الحواجز بعد أن انضم إلى قوات «الدفاع الوطني» الأهلية رافضاً التفرغ للدراسة، فالبلد «تحتاجنا يا أمي.. نحن في أزمة.. الإرهابيون يأتون من ثمانين بلداً في العالم.. يريدون تدمير سوريا».

عندما يخرج المسلحون أخيراً بالباصات الخضر إلى الشمال، ويلتحق السكان المدنيون بمراكز الإيواء، سيشاهد عبدو إيمان بصورة خاطفة على شاشة التلفزيون فيجهد في العثور عليها. لكن المفاجأة كانت الطفل الذي تحمله ولا تعرف أباه من منتهكيها الثلاثة!

سيكون المشهد الأخير لقاء صعباً بين الحبيبين الشابين اللذين تغيرا كثيراً خلال سنوات الفراق القاسية. ولن نعرف نتيجته، ومستقبل العلاقة بينهما؛ لأن الروائي قرر أن يختم هنا. في نهاية مفتوحة!!...