حسابات خاطئة في منطقة ممزقة وغامضة

2023.04.12 | 06:50 دمشق

حسابات خاطئة في منطقة ممزقة وغامضة
+A
حجم الخط
-A

لم تقتصر تداعيات الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا في مطلع شهر شباط من العام الجاري على الجانب الاقتصادي والبشري فقط، وإنما انعكست أيضاً على الجانب السياسي وخصوصا فيما يتعلق بالملف السوري، فها هي تركيا والتي كانت لاعبا أساسيا ومهما في هذا الملف تنشغل بتداعيات هذا الزلزال وتحديدا بما يتعلق بتداعياته الداخلية، لا سيما أنها مقدمة على انتخابات قد تكون حاسمة، وقد تغير كثيرا في مسار السياسة التركية حيال ملفات كثيرة في مقدمتها الملف السوري.

ترافق الانكفاء التركي بتطورات كثيرة تشهدها المنطقة، فهناك التصعيد الإسرائيلي/ الأميركي ضد إيران، والذي تترجمه إسرائيل عبر قصفها الذي يكاد يكون يوميا لمواقع داخل سوريا يقال إنها إيرانية أو تتبع لميليشيات تابعة لها، أو لشحنات أسلحة ومعدات ترسلها إيران لتعزيز  وجودها العسكري في سوريا.

هذا التصعيد الإسرائيلي قوبل بتصعيد إيراني واضح وصريح حدث في الأيام الماضية، إذ تم إطلاق عشرات الصواريخ من جنوب لبنان باتجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإطلاق ثلاثة صواريخ من الجنوب السوري باتجاه هضبة الجولان السورية المحتلة، وكأن إيران تريد أن تقول في رسالتها الصاروخية هذه بأنها قادرة على إشعال ثلاث جبهات أخرى غير جبهتها دفعة واحدة في وجه "إسرائيل" هي جبهة الجولان السوري، وجبهة جنوب لبنان، وجبهة الداخل الفلسطيني.

سيكون من السذاجة الاعتقاد ولو للحظة واحدة أن حماس قادرة على إطلاق رصاصة واحدة من جنوب لبنان دون توجيه إيراني وموافقة وتنسيق حزب الله

رغم أن "حزب الله" اللبناني سارع عبر إعلامه للقول بأنه لا علم له بمن أطلق الصواريخ من الجنوب اللبناني، وأبلغ اسرائيل عبر وسطاء دوليين منهم فرنسا بذلك، ويتم تداول رواية مفادها أن حركة حماس هي من قامت بإطلاق هذه الصواريخ، كما أنه تم الإعلان أن الفصيل الفلسطيني "سرايا القدس" هو من تبنى عملية إطلاق الصواريخ الثلاثة من الجنوب السوري، إلا أنه سيكون من السذاجة الاعتقاد ولو للحظة واحدة أن حماس قادرة على إطلاق رصاصة واحدة من جنوب لبنان دون توجيه إيراني وموافقة وتنسيق حزب الله، وكذلك الأمر فيما يتعلق ب"سرايا القدس" وبصواريخ الجولان السوري.

في مقلب آخر، وهو الأهم فيما يحدث عالميا وأقصد الحرب الروسية الأوكرانية والتي تأخذ أبعادا جديدة بعد فشل واضح لما خطط له "قيصر روسيا" عند إطلاقها، فإن العالم كله تقريبا يعيد ترتيب أوراقه على احتمالات تمددها جغرافيا، وامتدادها لفترة زمنية طويلة، فها هي إيران تذهب إلى الاصطفاف بجانب روسيا، وها هي الصين تلعب في الخفاء وفي العلن أحيانا بما يقوي روسيا ويضعف من خصومها، وها هي أوروبا تتمكن من إفشال مخطط بوتين الذي توقع أن قطع الغاز عنها سوف يخلق أزمة كبرى فيها، تتجلى في تباطؤ الاقتصاد، وزيادة معدلات البطالة، وزيادة التضخم في اقتصادها، لكن أوروبا استطاعت أن تتجاوز شتاءها الأول بعد الحرب دافئة وبلا زيادة في معدلات البطالة، وبتضخم أقل بكثير من التوقعات، وتقرر المضي في دعمها لأوكرانيا.

وسط كل تفاصيل هذه اللوحة يبدو المشهد في منطقتنا متداخلا وشديد التعقيد، فالسعودية التي تحاول أن ترسّخ نفسها لاعبا أساسيا في المنطقة تكسر معظم قواعد سياستها التقليدية، فتخرج عن الهيمنة الأميركية، ويعلن ولي عهدها "محمد بن سلمان" أن السعودية ليست تابعة لأحد، وأنها تابعة لمصالحها فقط، ويستضيف رئيس الصين باحتفاء بالغ لم يحصل "بايدن" عليه عند زيارته للسعودية، ويوقع مع الصين اتفاقات بمئات المليارات، والأهم أنه يفتح الباب لعلاقات سعودية إيرانية جديدة يجري العمل على وضع تفاصيلها بعد عودة العلاقات بين البلدين برعاية صينية.

نأتي إلى الملف السوري والذي تنفتح آفاقه باتجاه احتمالات واضحة لعودة النظام السوري إلى الوسط العربي الذي قررت معظم أطرافه مقاطعته منذ أكثر من عقد، والذي قد يُدشن بدعوته لحضور القمة العربية القادمة في السعودية، مع ما يعنيه هذا سياسيا، وما ينعكس على الثورة السورية، ومستقبل الشعب السوري، وهنا أيضا يصعب تفسير التحول السعودي فيما يخص النظام السوري، فهل تم هذا التحول بسبب التوافق الإيراني السعودي الجديد، أم أنه تم كما فسره الكثيرون بمحاولة الأطراف العربية لانتزاعه – أي النظام السوري – من الحضن الإيراني، وإخراج سوريا من الفلك الإيراني؟

لا يمكن التوفيق بين التفسيرين، فتعويم نظام الأسد مع الإبقاء على النفوذ الإيراني في سوريا يعني نصرا مؤكدا لإيران، وهزيمة مؤكدة للسعودية كيفما أرادت أن تفسرها أو تبررها، وانتزاع هذا النظام من الحضن الإيراني غير ممكن إلا بمواجهة إيران المتغلغلة اقتصاديا وعسكريا واجتماعيا في سوريا، والأهم أنها تمسك بقوة بقراره السياسي عبر سيطرتها على عائلة الأسد، وبالتالي فإن عزل عائلة الأسد هو المدخل الوحيد لفك القبضة الإيرانية عن العنق السوري، فكيف تقرأ السعودية هذه المعضلة، وكيف تخطط لها؟

لعل الهاجس الأهم اليوم للسياسة السعودية هو إعادة ترتيب أولوياتها فيما يتعلق باصطفافها داخل المشهد السياسي العالمي، فهي ترى أنها تمتلك قوة اقتصادية وإقليمية تؤهلها للعب دور بالغ الأهمية في المحاور السياسية العالمية، وتؤهلها للخروج من تبعيتها للإدارة الأميركية، وهي وإن أعلنت أنها ستبقي على علاقتها مع أميركا، لكنها أعلنت أن هذه العلاقة ستأخذ منحى جديدا أكثر ندية، وأكثر احتراما لمصالح السعودية.

الجانب الأكثر خطرا على السعودية في سياستها الجديدة هو الاعتقاد بأن الخطر الإيراني يمكن الحد منه عبر اتفاق ما

من أجل التطلعات السياسية للسعودية، ومن أجل المضي إليها تحاول السعودية إطفاء الحرائق المشتعلة حولها، والتي شغلتها لسنوات طويلة، وأهمها الصراع مع الحوثيين في اليمن، وأيضا تحاول إزاحة الملف السوري جانبا، والتفرغ تماما لتغيرات مهمة في الداخل السعودي، ولعلاقات جديدة مع الأطراف الدولية قائمة على الندية والمصالح.

لعل الجانب الأكثر خطرا على السعودية في سياستها الجديدة هو الاعتقاد بأن الخطر الإيراني يمكن الحد منه عبر اتفاق ما، وبالتالي يمكن إزاحته في سلم الأولويات، ولعل التفسير الذي يقال أحيانا بأن السعودية تحاول في علاقتها الجديدة بإيران تحييد نفسها من حرب قادمة قد تشتعل بين إسرائيل وأميركا من جهة وإيران من جهة أخرى، يبدو منطقيا قليلا إلا أن السياسة السعودية حيال إيران تبدو كما لو أنها حسابات خاطئة في منطقة ممزقة وغامضة.