حسابات الأسد المستقبلية حيال "ظاهرة درعا"

2021.08.06 | 06:34 دمشق

20190227113223afpp-afp_1dy9bo.h.jpg
+A
حجم الخط
-A

زمن الحرب ليس كزمن السّلم، ومعادلات التعاطي مع الظروف التي تخلقها قواعد الحرب، لا تصلح لتلك الأزمنة التي يمكن أن تسمّى أزمنة استقرار وسلم. بالنسبة لرئيس النظام في سوريا بشار الأسد هذه مشكلة المشكلات، فقد نجح ــ حسب قوله ــ في تجاوز الحرب، وأعلن انتصاره وبدأ بترتيب أوراقه مع حلفائه، من أجل مرحلة إعادة الإعمار بعد انتخابه مجددا رئيساً فوق الدستور وفوق القرارات الدولية وبيان جنيف والعملية التفاوضية وعقوبات قيصر وغيرها. 

نغّصت عليه انطلاقته الجديدة، عودة درعا إلى الصدارة منذ رفضها لانتخاباته، تزامناً مع موقف مشابه لجارتها السويداء، عند تلك اللحظة شعر أن الأوضاع في درعا ليست كما كان يتخيل، ولا كما أفهمه الروس الذين عقدوا مصالحات هناك أفضت إلى انضمام مقاتلي الجيش الحر السابقين إلى هياكل عسكرية برعاية روسية، ولم يقل له الإيرانيون وميليشياتهم أن درعا يمكن أن تتصرّف كأنها غير خاضعة لسلطته المركزية في دمشق. كان يعتقد أن الأمن استتب في حوران وأنه يمكن له أن يلتفت إلى شؤون أخرى. 

بَسْطُ سيادة الدولة بالقوة على حوران بأكملها، مشروعٌ أراد له الأسد أن يسدل الستار على جميع مظاهر التمرّد التي يمكن أن يراها هناك، سواء في وقفات الجامع العمري الذي هدّد كبار مسؤولي النظام بهدمه قبل تفجّر الأوضاع، أو في رفض شباب درعا تسليم أسلحتهم لجيش النظام. ولم يبق أمام الأسد سوى اتخاذ القرار الذي كان يتخذه كل مرة، منذ ليل الثالث والعشرين من آذار عام 2011  في المكان ذاته، درعا؛ الاجتياح.

اعتقد الأسد أن العملية ستكون سهلة وأنها لن تستغرق سوى ساعات قليلة، يرفع فيها علمه بدل علم الاستقلال فوق مئذنة الجامع العمري معلناً هزيمة درعا. لكن هذا السيناريو لم يتحقق. وكانت المقاومة الشرسة التي أبداها أهل حوران ضد قوات الأسد أكبر بكثير من حسابات الأسد الذي خسر العديد من المناطق ووقع جنوده أسرى بيد المقاتلين الذين رفضوا الانكسار أمام الأسد.

كعقوبة غير مباشرة ومن نوع خاص، تركَهُ الروس يواجه أوهامه في درعا، ولم تسعفه الميليشيات الإيرانية بما يكفي، وأياً كان المسار الذي ستمضي فيه الأحداث في حوران فإن ظاهرة جديدة قد برزت في المشهد السوري سيكون على الأسد أن يحسب لها ألف حساب في المستقبل. 

ليست المشكلة في المناطق التي يمكن أن تتمرّد بعد أن باتت شكلياً تحت سيطرة النظام، المشكلة الحقيقية هي في المتغيرات التي طرأت على وضع "الرئيس" ذاته

ليست المشكلة في المناطق التي يمكن أن تتمرّد بعد أن باتت شكلياً تحت سيطرة النظام، المشكلة الحقيقية هي في المتغيرات التي طرأت على وضع "الرئيس" ذاته، فرئيس الحرب ليس رئيس السلم، ومن استطاع خلال عشر سنين مضت شنّ كافة أنواع الهجمات ضد الشعب، بذريعة أن الحرب تتيح كل ذلك، لن يكون بوسعه فعل الأمر ذاته في المستقبل، فيما لو استمر في الحُكم.

يراقب السوريون التحولات في المشهد في بلادهم، ملتفتين إلى الأبعاد العسكرية والسياسية وغير ذلك من منعكسات ما تعيشه سوريا منذ اندلاع انتفاضة شعبها. والواقع أن آثار حرب عمرها عقد من الزمان لا تتوقف فقط على من يسيطر عسكرياً، أو على ما يحدث في أروقة التفاوض والتفاهمات الدولية، هناك ما يتغير في وعي البنية السكانية في المناطق التي بقي الأسد يسيطر عليها وتلك التي استردّها من أيدي الثوار. والسؤال اليوم بات يطرق بقوة في ذهن الأسد: ماذا لو تمرّدت مناطق أخرى غير درعا؟ السويداء مثلاً؟ أو حماة مجدداً؟ أو حمص؟ أو ــ وهذا الأخطر بالنسبة إليه ــ الساحل السوري؟ هل سينفع الاجتياح والممارسات التي قام بتطبيقها في غير مكان عندئذ؟

أسباب التمرّد لا تتوقف على الطائفة التي تخضع لتلك التأثيرات، وقد وفّر الأسد لكل منطقة من المناطق السورية الأسباب ذاتها التي تدفعها إلى التمرّد عليه. وكل تلك الأسباب تدور حول شخصية الأسد، إذ ما الذي يجعل الديكتاتور ديكتاتوراً إن لم يتمكن من تأمين حُكمه بمقوّمات واضحة أمام الشعب الراضخ لهيمنته؟ وإن كان لا يستطيع انتهاج سياسات تضمن الحد الأدنى من العيش لمن هم تحت سلطته فما معنى الاستمرار في الرضوخ له؟ كل ما لدى الأسد حتى اليوم، هو ما يمكن أن يفكّر فيه أحد سجانيه الصغار في أيّ زنزانة في قبو فرع مخابرات. ليس لديه سوى الضرب بقوة على اللحم الحيّ. وبينما يستطيع السجان مواصلة تعذيب ضحيته حتى الموت، ليس بوسع رئيس النظام فعل ذلك مع الجميع، فهو بحاجة إلى من يحكمهم ويستبدّ بهم في تفاهم خفيّ لا بدّ من المحافظة عليه طوال الوقت.

”ظاهرة درعا“ ستبقى تؤرّق الأسد، لأنه لا يملك سوى المناورات الآن، وكلها تجري خارج الرقعة السورية، فهو يتصوّر أن الداخل أمر محسوم، وبات يتوهّم سوريا وهي عائدة إليه من جديد، يناور مرة مع الصينيين ضد الروس، ومرة مع الروس ضد الإيرانيين، وثالثة مع الخليجيين ضد غيرهم، ولا تجدي المناورات على طول الخط، فالمنطق التاريخي يقول إن الأمر في الأول والآخر هو بينه وبين السوريين، لا مع أحد آخر.

في الحرب نشأت علائق جديدة بين الناس تحت حكم الأسد، وظهر مزاج مجتمعي جديد، ونمت حالات جديدة تقتات على الخراب والانهيار الاقتصادي، وتمت شرعنة قوانين جديدة تتيحها حالة الاستنفار المزمنة. وهذا كلّه يشتغل فقط في زمن الحرب التي يقف الأسد عاجزاً بين خيارين، لا يريد لها أن تتوقّف كي لا يواجه استحقاقات السلم وهي كثيرة وملفاتها أكثر سخونة من أن يجري غض الطرف عنها، ومن جانب آخر لا يريد للحرب أن تستمر كي يظهر بمظهر المنتصر ويحسم الأمر ويغذّي نظامه الجديد الذي يتوهّم وحده أنه نجح في خلقه. 

ستتكرّر ”ظاهرة درعا“ في مناطق مختلفة من الخريطة السورية التي يحكمها الأسد، وستُلهِمُ مناطق أخرى من سوريا يحكمه غيره، لأن الناس يتعلّمون الدرس من بعضهم بعضا، ويراقبون ردود الفعل ويرصدون التحولات التي لا يتقن الأسد وأشباهه فكّ شيفراتها.