icon
التغطية الحية

حزن الأمهات السوريات.. بين مسرحية (الأم) لـ كارل تشابيك و(الأم الشجاعة) لـ بريخت

2022.06.04 | 18:18 دمشق

ammm.jpg
(لوحة لـ فرانك هول)
عيسى الصيادي
+A
حجم الخط
-A

/مقاربة نقدية بين مسرحية (الأم) لــ (كارل تشابيك) وبين مسرحية (الأم الشجاعة) لــ (بروتولد بريخت) وانعكاسها على الأمهات في الثورة السورية/

كلا المسرحيتين تنتميان إلى المسرح السياسي، وظهرتا عقب حرب الثلاثين عاماً والحرب الأهلية في إسبانيا، وكلتاهما موضوعها الرئيسي هو "الأم" التي تحمل ثيمة المعاناة تحت ظروف الحرب القاسية، إذ فقدت كلتاهما أبناءهما في الحرب؛ إلا أن واحدة تختلف عن الأخرى، ومن خلال مقاربة تحليلية بسيطة لهذين العملين وإسقاطهما على حال الأمّهات السوريّات في ظلّ الحرب السورية؛ سنجد تشابهاً كبيراً بين حال الأمّ السوريّة في أثناء الحرب، ونموذجيّ الأمهات اللذين طرحمها مؤلّفا العملين المذكورين آنفاً.

"الأم الشجاعة" هي الشخصية الرئيسة لبطلة المسرحية؛ "آنا فييرلينج" حظيت بهذا اللقب الشجاعة" في "ريغا" عندما تعرضت للقصف من أجل بيع أرغفة الخبز، لديها أربعة أولاد "إيليف، سويز جيز"، و فتاة" قطرين" ، تحاول الاعتناء بهم وحمايتهم، لكنها تفقد جميع أبنائها في أثناء متابعتها للحرب في جميع أنحاء أوروبا وتنهي المسرحية بمفردها مع عربتها.

تقع أحداث المسرحية في أوروبا خلال حرب الثلاثين عاماً، حيث تطوف الأم بعربتها مع أبنائها خلف خطوط جبهات القتال، وتتاجر مع الجنود وتحاول جني الأرباح من الحرب، فتعقد صفقة مع الجيش، ثم ينتهي بها المطاف بالعودة إلى الثكنة.

بينما تعد مسرحية (الأم) لــ (كارل تشابيك) من المسرحيات الرائدة التي كتبت في الحرب الأهلية في إسبانيا حيث كانت مناهضة للحرب كتبت عام 1938. تأثرت بشدة بالحرب الأهلية الإسبانية، تصور المسرحية البطلة الأم "دولوريس"، التي تعاني من فقدان زوجها "ريتشارد" الذي قتل في الحرب، كذلك تصوّر لنا المسرحية مشاعرها وهي تفقد  أبناءها الواحد تلو الآخر، حيث  قُتل زوجها في ما اعتبرته الأم معركة لا طائل منها، حين كان يقاتل ضد السكان الأصليين في أفريقيا البعيدة، تتحدث "دولوريس" مع "ريتشارد" لحظة وفاته، يحاول زوجها تبرير مقتله ويصر على أنه مات في سبيل الشرف والواجب، وبدورها تشكو "دولوريس" من تركها هي وأطفالها. فجأة بعد الاتصال، يظهر "أندرو" الابن الأكبر والطبيب في الغرفة ميتا أيضاً، ويخبر والدته أنه فقد حياته في أفريقيا محاولاً علاج الحمى الصفراء!  ثم يظهر ابنها "جورج" في الغرفة ميتاً ويحيي والده وإخوته ليخبر والدته اليائسة أنه مات في أثناء محاولته تحطيم الرقم القياسي للارتفاع.  

في تلك اللحظة، تعلن الأخبار في الإذاعة أن الحرب الأهلية في البلاد تزداد ضراوة، يشارك ابناها "بيتر وكورنيل" في هذه الحرب، ثم يظهر الاثنان فجأة في الغرفة ليعلنا أن كلاهما قد قتل، توفي "بيتر" عندما تم اعتقاله وإعدامه من قبل (البيض) وتم إطلاق النار على" كورنيل" خلال معركة في الشوارع. خلال المشهد الثالث والأخير، تكافح الأم لترك ابنها الأخير" توني" لكن الراديو يأتي ويعلن أن العدو قصف مدرسة للأطفال وقتل أطفالاً أبرياء؛ بعد هذا، تعطي "دولوريس" لابنها "توني" سلاحاً وتنهي المسرحية بكلمة "انطلق".

 تأثرت المسرحية بالحرب الأهلية في إسبانيا، وتصور العلاقة الصعبة بين الرجال الذين أرادوا القتال وأمهاتهم. أحبائهم الذين لم يرغبوا في ذهابهم. كما تُظهر الحرب ضد الفاشية، والاضطراب العاطفي والمعاناة التي تجلبها الحرب. تؤكد المسرحية على الصعوبات غير الضرورية للحرب والعلاقات المعقدة في أثناء الحرب، مؤكدة أنه على الرغم من أن الحروب سيئة، إلا أنه في بعض الأحيان ليس لدينا خيار سوى خوضها لحماية حريتنا.

تظهر الأفكار الدرامية والأفكار السياسية لبريخت في مسرحية الأم الشجاعة  وأبنائها وكأنه يفضح حقيقة الحرب وآثارها في النفوس والتغيرات العاطفية غير المتوقعة والمنسجمة مع أدواتها، ويتحدّى الغرائز التقليدية للأمومة، لهذا السبب لم يكن يريد أن تكون الأم الشجاعة، التي لا تكسب كثيرا من إخفاقاتها، متعاطفة مع الجمهور، عليه أن يشرح الجانب الرهيب من الواقع حيث يظهر أن المصلحة لها الكلمة الأخيرة في صراع الأم الشجاعة بين الحب والبقاء على قيد الحياة.

"الأم الشجاعة" تلك التي تدفع عربة المصالح وتضع أبناءها عليها، تزايد عليهم وتبيعهم في جيش فقد كل مقومات البطولة والشرف، جيش التشبيح والتعفيش، تلك التي أرخصت أبناءها،

لقد وضعنا بريخت أمام حالة يصعب أحياناً التعاطف معها وقد صوّرها كشخصية خسيسة أحياناً، وأحياناً تبدو ضحية الحرب القاسية، لكنه بالمجمل أراد أن يشاهدها جمهوره على أنها "ضبع في ساحة المعركة" أكثر من كونها بطلة مأساوية تسعى إلى التعاطف معها. كتلك المشاعر المتناقضة التي تعتري بعض السوريين وتجعلهم يرفضون التعاطف مع أمهات الجنود الذين شاركوا في الدم السوري وقتلوا واغتصبوا وشبّحوا باسمه، ربما هناك قلّة تعتبرهم ضحايا!

 بينما كانت شخصية الأم في مسرحية "الأم"  التي تحجم عن دفع أبنائها للقتال، بحجة أن الحرب "كل الأطراف فيها خاسرة"، ولا تريد أن تكون طرفاً فيها، لكن لا محالة ستطول الحرب أبناءها الواحد تلو الآخر، في النهاية يتضح أن الانخراط في القتال هو نتيجة حتمية وليس خياراً، وهنا تحول الجبن الذي تفرضه فطرة الأمومة إلى فعل قسري بإطلاق العبارة الأخيرة من المسرحية "انطلق"، فالمسرحية تعاين تفاصيل الخوف والقلق من دفع الأمهات لأبنائهن لخوض الحرب، وفي مسرحية "الأم الشجاعة" على المقلب الآخر نجد أن الأم لها دور سلبي واضح ، من خلال الاستفادة من واقع الحرب، والتكيف معه ولو ظاهرياً على حساب دماء أبنائها،  تجلى ذلك في خاتمة المسرحية بطلب العودة إلى الثكنة ، واستمرار التكسب والتربح من الحروب ،وذلك يعيد سؤال الثورة السورية الملحّ عن دور الأمهات في الحرب، من طرف النظام، لماذا لم يكن لهن صوت بارز واضح يمكن أن يُعوّل عليه؟

"الأم الشجاعة" تلك التي تدفع عربة المصالح وتضع أبناءها عليها، تزايد عليهم وتبيعهم، في جيش فقد كل مقومات البطولة والشرف، جيش التشبيح والتعفيش، تلك التي أرخصت أبناءها، وكتمت الحقيقة المرة، وهي تجلس على قبر ابنها، شتان بينها وبين الأم التي فقدت ابنها "شهيداً" في سبيل قضية محقة، وبطولة استحوذت الشرف كله. حتى لو لم تدفعه بيديها، ومنعتها فطرتها المجبولة على الحب والبقاء لأجل من تحب، حتى لو لم تنطق بعبارة "انطلق" فقد قالتها الأمهات بشكل أو بآخر على طول مسيرة الثورة السورية.

أما الأم السورية التي فقدت أبناءها وفقدت وطنها، وهي تعاني من وطأة النزوح ومهانة اللجوء والعوز، وتدفع ضريبة مضاعفة لوجودها في بلد غير بلدها لا تتحدّث لغتها، في سبيل تأمين شروط  بقائها فقط، لا حول ولا قوة لها في تغيير عجلة الحرب، تلك الأم التي يساء معاملتها في كثير من بلاد النزوح، ولربما تضرب على وجهها، تلك الأم التي تظهر عجز أبنائها عن الدفاع عنها، وتظهر قماءة الحرب، وتوحّش الإنسان الحالي، لقد أظهر لنا الأدب كيف تحزن الأمهات في الحرب، أما تلك فقد  جعلتنا ننظر إلى أنفسنا قبل أن ننظر إلى مأساتها هي، تلك أحزان الأمهات التي لم يتطرق لها الأدب المسرحي بعد.