حزب الله ومصارف لبنان: جريمة أصلية

2019.08.31 | 19:40 دمشق

+A
حجم الخط
-A

إذا كان النفط هو ما يضمن للسعودية مثلاً تماسكها دولة ومجتمعاً واقتصاداً، فإن النظام المصرفي هو القلب النابض للكيان اللبناني.

النظام السياسي اللبناني معقود على مبادئ الاقتصاد الحر الرأسمالي ونظام السوق. وفي المتن من هذا الترابط العميق يقع النظام المصرفي، المتصل عضوياً بالأسواق المالية وشبكة المصارف العالمية.

كانت "قوة" لبنان منذ تأسيسه تكمن هنا، في هذه البنوك التي أمنت شروط بقاء الكيان وازدهاره واستمراريته. التدفقات المالية وإدارتها ورسملتها وتوظيفها ووصلها بالأسواق العالمية، أتاحت على الدوام مستوى اقتصادياً أفضل للبنانيين، حتى ولو كان التوزيع غير عادل للثروة ومنافعها في معظم الأحيان.

يمكن القول إن التعليم الخاص والمصرف الخاص هما أقنوما المجتمع اللبناني. وهاتان المؤسستان هما ركيزتا الكيان، وبهما استطاع اللبنانيون ترتيب عمرانهم واجتماعهم ونمط عيشهم.

يمكن القول إن التعليم الخاص والمصرف الخاص هما أقنوما المجتمع اللبناني. وهاتان المؤسستان هما ركيزتا الكيان، وبهما استطاع اللبنانيون ترتيب عمرانهم واجتماعهم ونمط عيشهم. وما بين الجامعة والمصرف، وبشروطهما، تتوافر حصانة مبدأ الحريات السياسية والاقتصادية، والصلة بالعالم والعصر. بل وتترجم "الديموقراطية" نفسها ليس دستوراً وحسب إنما نظاماً حقوقياً كفيلاً بدوام شروط المصرف والجامعة: حرية المال وحرية الأفكار.. معاً. ولا يمكن الفصل بين هاتين الحريتين، وبهما ومعهما تنشأ حياة ثقافية واجتماعية لها الدور الحاسم في صوغ الهوية الوطنية وعقيدة الدولة.

بالطبع، يمكن تسجيل كم كبير من العيوب التي تعتري هذه المنظومة. وبالطبع "يتميز" لبنان بنظام طائفي يصيب الديموقراطية والرأسمالية الليبرالية بأعطاب فادحة، وبالطبع تطغى طبقة أوليغارشية يضرب فسادها عميقاً في الاقتصاد والمجتمع والسلطة. لكن، ومع ذلك، هو أفضل بما لا يقاس من أنظمة تغيب عنها "حرية المال وحرية الأفكار".

نقول كل هذا، على ضوء القرارات الأميركية بفرض عقوبات على بنوك لبنانية تتورط في تبييض أموال حزب الله، وتسهيل معاملاته المالية وتمويل نشاطاته وتأمين وصول التبرعات إليه.. فبعد قضية "البنك اللبناني – الكندي" قبل سنوات، جاء قرار الخزانة الأميركية قبل يومين بضم مصرف "جمال ترست بنك" إلى لائحة العقوبات، مع التلويح بوجود مصارف وأشخاص وكيانات أخرى قد تقع عليها العقوبات أيضاً.

هذه القضية تبين فداحة ما يرتكبه حزب الله في لبنان. إن تخريبه لسمعة النظام المصرفي اللبناني، وتحويله إلى شبكة مؤسسات مارقة تعمل لحساب عصابات وأنظمة ما يسمى "محور الممانعة"، كفيل بإخراج البنوك اللبنانية تباعاً من النظام المصرفي العالمي. وهذا إذا تم في اقتصاد مدولر (من الدولار) كالاقتصاد اللبناني، سيترتب عليه انهيار حقيقي للبلد.

يرتكب حزب الله جريمة أصلية بحق لبنان. فدولة هائلة الموارد والمساحة والسكان وتقبع على احتياطات ضخمة من النفط والغاز كإيران، بالكاد قادرة على تأمين قوت شعبها وحاجاته، بسبب العقوبات الاقتصادية الأميركية. لقد هبط سعر العملة الإيرانية بأرقام قياسية إلى حد أن الدولة ألغت أربعة أصفار من الريال. ورغم ذلك فإن سعر الدولار الواحد اليوم هو 12 ألف ريال إيراني (وعملياً يجب إضافة أربعة أصفار إليه). قبل إيران، كان نموذج كوريا الشمالية حيث حلت المجاعة التي قتلت ما يقارب مليون إنسان، للسبب نفسه، برنامج نووي وصواريخ باليستية. وإذا كانت إيران قادرة على الالتفاف نسبياً على العقوبات عبر منافذ تهريب تمتد من أفغانستان وباكستان ودول بحر قزوين وروسيا وتركيا والعراق، إلا أن هذا لا يؤمن لها الإنقاذ من ورطتها الاقتصادية المتعاظمة والموجعة. فكيف سيكون الحال في لبنان إن أصابته هكذا عقوبات وعزلة دولية؟

لا يريد حزب الله أن يخسر النظام المصرفي اللبناني. هو بحاجة إليه تماماً كحاجته للسلاح والمقاتلين. من دون تمويل بالعملة الصعبة يفقد الحزب تدريجياً قدرته على التعبئة والتنظيم والقتال. مع ذلك، ولأنه منظمة مارقة، فإن الضرر الذي يلحقه بالبنوك مميت ومدمر.

لقد فتك الحزب بالنظام السياسي اللبناني، وشوهه أكثر مما كان مشوهاً. عملياً، أطاح بالنظام الديموقراطي البرلماني وجعله أقرب إلى نظام قبلي على طريقة اللويا جيرغا الأفغانية، ويتسيده هو بفعل "فائض القوة". ثم أنه أرسى دويلة مسلحة داخل الدولة وأقوى منها. وعمل على إعادة صوغ الهوية المذهبية الشيعية وفق إيديولوجية خمينية محدثة ومتطرفة بطبيعتها وطقوسيتها. وهذا عملياً دفع الجماعات اللبنانية إلى الاحتذاء به في التحصن المذهبي والطائفي، ما ساهم على نحو بائس في فساد النظام السياسي والإدارة والاقتصاد وتهافت الدولة وضعفها.

ويجر هذا الحزب لبنان كله إلى معاداة الغرب ومحيطه العربي، ويربطه بذاك المحور الذي يظن أن "الكرامة" صنو الصواريخ والبرنامج النووي ولو بمجاعة وفقر وبؤس، وحروب أهلية وعالمية على امتداد عقود لا تترك حجراً على حجر. فلا يكون تعليم ولا مصارف ولا اجتماع ولا اقتصاد.. ناهيكم عن الحريات وعن الصلة بالعالم وعن العيش الطبيعي.

يحاول الحزب التذاكي الدائم، في سعيه للحفاظ على ما يقدمه "النظام اللبناني" من امتيازات الولوج إلى العالم، وفي الوقت نفسه ضمه إلى "محور الممانعة".

ويحاول الحزب التذاكي الدائم، في سعيه للحفاظ على ما يقدمه "النظام اللبناني" من امتيازات الولوج إلى العالم، وفي الوقت نفسه ضمه إلى "محور الممانعة" من دون أن يصيبه ما تتذوقه أنظمة الممانعة من خراب وبؤس وفقر وعوز وعزلة. يحبذ حزب الله دولة لبنانية على صلة بالغرب ومجتمعاً لبنانياً منفتحاً على العالم ومتصلاً به، لما يؤمنه من فوائد، وفي الوقت نفسه يريده "مقاوماً" على معنى معاداة هذا العالم في آن واحد. لقد كان خطف الأساتذة الجامعيين الأجانب يتماشى في الوقت نفسه مع حرص نخبة الحزب على تعليم أبنائها في الجامعة الأميركية والجامعة اليسوعية. لقد كان احتقار الرأسمالية والدولار والمصارف المرتبطة بالإمبريالية الأميركية موازياً للشغف بالحصول على الدولار، تحت شعار يحل هكذا تناقض ويبيحه: المال الحلال والمال الحرام، على ما قال مرة حسن نصرالله.

هذا التذاكي استنفد حيله، واستنزف لبنان أكثر مما يتحمل، خصوصاً وهو اليوم في مأزق أمام "شعبه"، الذي يتوجس من أي تكرار لحرب تموز 2006. فـ"الانتصار الإلهي" حينها، هو بالضبط ما لا يطيق أهل الضاحية الجنوبية وأهل جنوب لبنان تذوقه مرة أخرى، بالأخص ليقينهم بشح الدولارات الآن في حال استوت بيوتهم وقراهم وضواحيهم السكنية بالأرض. لا يعرف حزب الله كيف سيحل معضلته، ما بين علة وجوده أي ديمومة الحرب، وعلة موته أي أخذ لبنان إلى نموذج غزة وما شابه.

لبنانُ حزبِ الله لا يشبه ذاك البلد الذي قام على الجامعة والمصرف. هو لبنان عقيدة الضاحية لا عقيدة المدينة.