في الذكرى الـ 75 للاستقلال اللبناني يظهر لبنان في هيئة ضيعة معزولة تحكمها ميليشيا مسلحة، بعد أن استكمل حزب الله سيطرته ليس على القرار السياسي والجغرافيا وحسب، ولكن على الآليات التي يتشكل منها الخطاب لدى خصومه وحلفائه على حد سواء.
أعلن رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري مؤخرا أنه "بي السنة" في معرض رده على محاولات تقزيم حضوره في الوسط السني عموما، من قبل حزب الله الساعي بقوة إلى توزير شخصية تنتمي إلى مجموعة متفرقة من النواب السنة، الذين فازوا في الانتخابات الأخيرة والذين باتو يعرفون باسم سنة 8 آذار.
أعلن رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري مؤخرا أنه "بي السنة" في معرض رده على محاولات تقزيم حضوره في الوسط السني عموما
ثبتت هذه العبارة ملامح المشروع الذي يحاول حزب الله تحويله إلى النظام الذي يحكم العملية السياسية في البلد، والذي يقوم على رد كل مكون إلى بنية خصوصية، ثم تقزيم سيطرته على هذه الخصوصية إلى الحدود الدنيا واختراقها، ثم تفريغها تحت عنوان التنوع ورفض الاحتكار.
لا يشكل هذا المنطق سوى الجزء الظاهر من اللعبة، ولكن الأعمق يبقى في أن الانتخابات النيابية الأخيرة، التي قبل بها تيار المستقبل وروّج لهذا القبول بعنوان التضحية ببعض النواب في سبيل المصلحة الوطنية، كرست هذا العنوان.
ما أفرزته الانتخابات والذي يمكن قراءته بدرجة عالية من الوضوح الآن يتمثل في أن الخسارة الفعلية لتيار المستقبل لم تكن في عدد النواب ولكن في أنه لم يعد تيارا حاضرا في المدن الكبرى، فقد تقلّص حضوره في العاصمة بيروت وفي صيدا، ويمكن النظر إلى إصرار الحزب على توزير الشخصية الطرابلسية فيصل كرامي على أنه يأتي في إطار استكمال معالم ترييف تيار المستقبل واستكمال إخراجه من المدن.
كان الرد الذي جابه به الحريري هذا الواقع التأكيد على أنه "بي السنة"، والحقيقة أن هذه العبارة تنطوي على بعدين أحدهما ضروري ويتعلق بطبيعة المواجهة المفروضة عليه والتي اتخذت طابعا سنيا لا يمكن مقارعته إلا من الباب نفسه، ولكن البعد الآخر ينطوي على تحول بارز وخطير في بنية تيار المستقبل الذي أجبر على الدخول في معادلة كانت كل خصوصيته تكمن في قدرته على التمايز عنها والنمو في قلب خصوصيتها في الآن نفسه.
لم يعلن الحريري عن تحول تيار المستقبل إلى تيار طائفي ولكنه أعلن بشكل أو بآخر عن نهاية تلك المعادلة الذهبية التي تسم حضوره بوصفه التيار المديني الأبرز وبات مطالبا بتقديم تعريف محدد للسنة الذي يدعي أبوتهم وهو ما لا يستطيعه، فالسنة في لبنان ليسوا كتلة واحدة كما هو حال الشيعة، لذا فإن عملية النطق باسمهم تنطوي على مجموعة كبيرة من الثقوب سبق لحزب الله أن عمل على توسيعها، وهو يعمل حاليا على ملئها بكيانات سنية تدور في فلكه وتجعل من سعد الحريري في الحد الأقصى"بي جزء من السنة".
السنة في لبنان ليسوا كتلة واحدة كما هو حال الشيعة، لذا فإن عملية النطق باسمهم تنطوي على مجموعة كبيرة من الثقوب سبق لحزب الله أن عمل على توسيعها
المرعب في كل هذه المنظومة أن خروج تيار المستقبل من وضعية التعبير عن الفكرة المدينية، يضعه في مواجهة ثقل التعبير عن السنية بطابعها الريفي الذي يمثل حاليا الكتلة الأكثر تماسكا في وفائها للتيار الأزرق.
الاستجابة لمتطلبات السنية الريفية تضع المستقبل في مواجهة صورته عن نفسه والتي طالما ارتدت طابعا ليبيراليا غربيا لا يلتقي مع أي من تمثلات السنة لأنفسهم عموما، ولكنه كان الوسيلة أو الصورة التي تؤمن للتيار ولسعد الحريري القدرة على اختراق المجال الإقليمي والدولي.
كان لافتا أن الحريري مؤخرا دعا إلى حصر الأمور في الداخل اللبناني في الوقت الذي كان يسعى فيه إلى بلورة حضور لافت في المؤتمرات الدولية لاستخدامه في تحقيق انفراجات داخلية.
التطورات الأخيرة أقفلت الباب الدولي في وجه البلد، وبشكل خاص الباب الأوروبي، فبعد أن كانت أوروبا تميل إلى الوقوف إلى جانب إيران خوفا من أن تبادر هذه الأخيرة إلى استعمال ورقة اللاجئين وغيرها من الأوراق الأمنية ضدها، وهو ما كان يمكن أن يتيح رعايتها لتوازنات لبنانية داخلية، جاءت اختراقات حزب الله للمجال الأوروبي لتلجم هذا المسار، وتعيد وصل الموقفين الأوروبي والأميركي لناحية التشدد ضد إيران وفرض عقوبات عليها.
أدى هذا الاضطراب الدولي وظيفة إغلاق الخارج على سعد الحريري وعلى مشروعه، فهو لم يعد قادراً أن يكون راعي التوازنات، لأنه لم يعد لها من مكان في ظل التصعيد الإيراني المستمر وتعاظم ردود الأفعال عليه.
يُضاف إلى ذلك ظهور نوع من التحايل الروسي على العقوبات الأميركية ما أدى إلى تأزيم العلاقات بينهما، وفرض عقوبات أميركية على روسيا أدت وظيفة سياسية تمثلت في إعادة وصل العلاقات بين روسيا وما يسمى بمحور الممانعة في المنطقة.
أدى هذا الاضطراب الدولي وظيفة إغلاق الخارج على سعد الحريري وعلى مشروعه، فهو لم يعد قادراً أن يكون راعي التوازنات، لأنه لم يعد لها من مكان في ظل التصعيد الإيراني المستمر وتعاظم ردود الأفعال عليه.
من هنا فإن دعوته إلى لبننة الأزمة تنطوي على نوع من اليأس الذي وجد معناه في عبارة"بي السنة" التي تمثل نكوصا إلى داخل فقد صلاته بالخارج ولم يعد صالحا لإنتاج بنية مدينية أو مناخ مديني يمكن أن يخاطَب العالم من خلاله، بل بات ضيعة تصلح لتدبير شؤون العزلات المريرة وحسب.