حزب العدالة والتنمية في فخ الابتزاز!

2019.08.15 | 00:08 دمشق

+A
حجم الخط
-A

في عام 2014 سألتني موظفة السفارة الفرنسية في أنقرة عن السبب الذي يجعلني لا أرغب بالإقامة في تركيا ودفعني أن أتقدم بطلب الحصول على تأشيرة للجوء في فرنسا، فأجبت: في تركيا لا يمكن للسوري أن يشعر بالأمان طالما أن وجوده واستمرار وجوده هنا مرتبط برغبة الحزب الحاكم لا بقانون ناظم، وبالتالي فإن أي تغير سياسي يمكن أن يؤثر سلباً على السوريين هنا.

كنت أحد قلة من الناشطين الذين تقدموا بطلب لجوء في تلك الفترة، حيث فضل الغالبية البقاء في تركيا لأسباب مختلفة، من بينها توفر فرص العمل وشروط الإقامة المريحة وقتها، في ظل الصعود المتنامي لحزب العدالة والتنمية المؤيد للثورة السورية والداعم للمعارضة.

حدثت خلال السنوات التالية العديد من حوادث الاغتيال والاختطاف التي تعرض لها ناشطون في الثورة والمعارضة، لكن ناقوس الخطر الحقيقي ضرب عام 2016 مع محاولة الانقلاب التي فشلت في النهاية، لكنها جعلت كل السوريين المقيمين في تركيا يضعون أيديهم على قلوبهم خشية سقوط الحكومة واستلام السلطة معارضين لها يمكن أن تكون لهم مواقف معادية للوجود السوري، ما سيؤدي إلى خطر الترحيل الجماعي لهم، ومن السوريين من ذهب بمخاوفه أبعد من ذلك، حيث لم يخف البعض خشيته من أن تقوم السلطة الجديدة بإعادة كل الفارين من النظام السوري إلى مناطق سيطرة هذا النظام.

لكن طيلة الوقت الفائت، فإنه وعلى الرغم من مقتل عشرات السوريين برصاص حرس الحدود التركي، وعلى الرغم

لم يكتف حزب العدالة والتنمية بالتهرب من الأسباب العديدة الأخرى، السياسية والاقتصادية، التي جعلته يتراجع في الانتخابات البلدية الأخيرة، بل واختار الطرف الأضعف ليرمي عليه كل أسباب التراجع

من ترحيل السلطات التركية أفراداً سوريين باستمرار إلى المناطق الخارجة عن سيطرة النظام لأسباب مختلفة، إلا أن أحداً تقريباً لم يتوقع أن تنقلب حكومة حزب العدالة والتنمية في سياساتها تجاه السوريين المقيميين في تركيا، إلى الحد الذي باتت عليه خلال الشهرين الأخيرين الذين أعقبا خسارة الحزب لانتخابات بلدية إسطنبول.

لم يكتف حزب العدالة والتنمية بالتهرب من الأسباب العديدة الأخرى، السياسية والاقتصادية، التي جعلته يتراجع في الانتخابات البلدية الأخيرة، بل واختار الطرف الأضعف ليرمي عليه كل أسباب التراجع، حين تعامل مع قضية الوجود السوري في تركيا باعتبارها السبب الأول في الخسارة، فكان هذا هو الخطأ الأول.

الخطأ الثاني الذي كان لا بد أن يرتكبه الحزب التركي الحاكم، طالما أنه ارتكب الخطأ السابق، هو الاستجابة للابتزاز الذي تعرض له من جانب أحزاب المعارضة فيما يتعلق بالوجود السوري، حين أطلقت الحكومة حملة جائرة استهدفت بالدرجة الأولى السوريين المقيمين بطريقة غير قانونية في ولاية إسطنبول، وشملت الكثير من الولايات الأخرى ومن المقيمين فيها بطريقة شرعية!  كان هدف الحملة المعلن إعادة تنظيم الوجود السوري في المدينة وفي تركيا بشكل عام، بينما أكدت تطبيقاتها العملية أنها استجابة انفعالية للتغيير في المزاج الشعبي ضد الوجود السوري بتأثير من إعلام وأحزاب المعارضة، ومن تراجع الأداء الاقتصادي للحكومة.

وبعيداً عن محاولات نفي هذه الإجراءات من قبل بعض مؤسسات المعارضة المرتبطة بأنقرة، أو قيام بعض فئات السوريين، كالعادة، بتحميل السوريين أنفسهم المسؤولية عما لحق بهم مرة أخرى، فإن الخطأ الذي ارتكبه الحزب التركي الحاكم لا يتعلق هنا بالجانب الإنساني أو الأخلاقي فقط، بل هو خطأ سياسي واستراتيجي سيجعل "العدالة والتنمية" مستعداً دائماً لتقديم التنازلات وتغيير الاصطفافات والسياسات على حساب المبادئ التي قام عليها والشعارات التي يرفعها، والتي نجح من خلالها طيلة عقدين تقريباً، ليس داخلياً فقط، بل حتى على الصعيد الإقليمي كما هو معروف.

وعلى عكس المبرر الذي ساقه الكثيرون للحزب في اجراءاته الأخيرة بحق السوريين الهاربين من جحيم الحرب في بلادهم، باعتبارها استجابة ضرورية لإرادة الناخب التركي الذي "لا بد من إرضائه في النهاية"، وأن "الحزب لا يمكن إلا أن يتجاوب مع مزاج الشارع وينفذ إرادته"، حيث يرى أصحاب هذا المنطق أن في ذلك أعلى درجات الاستجابة الديمقراطية.

والحقيقة أنه لا يمكن لأي حزب ديمقراطي كبير أن يتنازل عن المبادئ التي يقوم عليها تحت أي ظرف أو طائل، بما في ذلك الاستجابة لرغبات الشارع، بل إن الأحزاب في البلدان الديمقراطية عندما تعجز عن إقناع الناخب بسياساتها، فإنها إما تتمسك بهذه السياسات حتى النهاية كمغامرة، لتثبت صواب رأيها، كما حصل مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل حين واجهت اعتراضات كبرى على سياسة الأبواب المفتوحة التي طبقتها حيال اللاجئين عام ٢٠١٥، إلا أنها تمسكت مع حزبها بهذه السياسة إلى أن أثبتت صوابيتها وجعلت الناخب الألماني يعيد النظر بموقفه من المستشارة وحزبها، ويصوت لهما بقوة في الانتخابات الماضية.

أما إذا وجدت هذه الأحزاب نفسها غير قادرة على المواجهة والمغامرة، فإنها تتنازل عن السلطة انطلاقاً من ثقتها بسلامة سياساتها ومبادئها التي لا يمكن أن تتنازل عنها، كما حصل باستمرار مع أحزاب اليسار الأوربية، التي لم تضح يوماً بأي من مبادئها وشعاراتها، خاصة فيما يتعلق بالرعاية الاجتماعية والهجرة والاتحاد الأوروبي، أمام هجمات اليمين المتطرف الذي أجبرها كثيراً على الذهاب نحو انتخابات مبكرة هزمت فيها أحياناً نعم، لكنها لم تقبل الابتزاز بما يتعلق بالقضايا المبدئية، وتركت الوقت يثبت للجمهور دائماً صحة وجهة نظرها، ولم تخش أبداً الخسارة السياسية بقدر ما رفضت دائماً الخسارة القيمية.

يعتقد الكثير منا خطأً أن الديمقراطية هي أن يستجيب الحاكم لإرادة الشعب، بينما هذا لا يعدو أن يكون جانباً واحداً من جوانب

كان على حزب العدالة والتنمية التركي ألا يسقط في فخ الابتزاز ويلحق بآلاف السوريين ألماً جديداً من أجل إرضاء جمهور مضلل

العملية الديمقراطية، وإلا لما احتجنا إذاً سوى حاكم فرد واحد يلبي باستمرار رغبات المحكومين خشية الثورة عليه واستبداله بحاكم آخر، بينما تقرر الديمقراطية، التعددية الحزبية والفكرية والتنافس فيما بين القوى ذات المبادئ والتوجهات المختلفة لإقناع الجماهير بسياساتها ومبادئها والقبول بالفوز والخسارة ..الخ.

من هذا المنطلق كان على حزب العدالة والتنمية التركي ألا يسقط في فخ الابتزاز ويلحق بآلاف السوريين ألماً جديداً من أجل إرضاء جمهور مضلل، وبدل الاستجابة لغضب الجمهور بهذه الطريقة، كان على مؤسسات الحزب أن تنشط إعلامياً لإيصال الحقيقة إلى هذا الجمهور فيما يتعلق بملف الوجود السوري على الأراضي التركية، وإقناعه بسياسات الحزب والحكومة في هذا الملف وإظهار خطأ خصومها.

أما هذا الشكل من الاستجابة، فإنها لا تجعل حزب الأغلبية التركي تحت رحمة المعارضة دائماً وحسب، بل وتدفع للتساؤل إلى أي مدى يمكن أن يتنازل الحزب في المستقبل من أجل إرضاء (مزاج الشارع) الذي يبقى، في تركيا وفي كل مكان، أسيراً للدعاية وردود الفعل المتسرعة؟

فماذا لو قرر الرأي العام التركي غداً أنه يجب طرد كل السوريين المقيمين على الأراضي التركية؟!

وماذا لو نجحت المعارضة بإقناع الشارع التركي بفكرة التصالح مع النظام السوري وتسليم جميع المنشقين العسكريين والمدنيين وكل المعارضين المطلوبين له؟!

ألن يكون على حزب العدالة والتنمية من منطلق إرضاء الجمهور إذن الاستجابة لهذه الرغبة؟!

في عام 2016 قدمت حكومة رئيس الوزراء البريطاني المحافظ ديفيد كامرون استقالتها بعد أن جاءت نتائج استطلاعات الرأي مخالفة لسياساتها بما يتعلق بالبقاء في الاتحاد الأوروبي، وقد كان بإمكان هذه الحكومة الانقلاب على مبادئها المؤيدة لاستمرار بريطانيا في الاتحاد، والتحول إلى تبني سياسات تنسجم ورغبات الجمهور (الذي عبر عن ندمه في استطلاعات لاحقة كما هو معروف من هذه القضية).

أما الواقع فإن حكومة كاميرون فضلت أن تستقيل وتترك للأيام أن تثبت صحة وجهة نظرها، وتصرفت بناء على ثقة بسياساتها وتمسك بمبادئ سياسية رأت أنه لا يمكن التفريط بها، فكيف إذاً عندما يتعلق الأمر بمبادئ أخلاقية وإنسانية؟!

لا أتكلم هنا كسوري من مصلحته ألا تتبع حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان سياسة التضييق على السوريين في أراضيها، فقد اخترت شخصياً ومنذ البداية ألا أبقى أسير ضبابية قانونية، أو رهن مزاج خاص أو عام يتحكم بي، فاخترت اللجوء إلى فرنسا حيث يربطني عقد قانوني واضح وصريح مع الدولة والمجتمع هنا..

كما أنني لا أتحدث فقط من منطلق الدفاع عن السوريين المظلومين الذين عانوا أو ربما سيعانون جراء السياسات الجديدة للحكومة التركية، بل وكذلك من منطلق الحرص على اسم وسمعة حزب العدالة والتنمية، الذي تمكن خلال عقدي حكمه من كسب مكانة خاصة على الصعيدين العربي والإسلامي، بما رفعه من شعارات الدفاع عن المظلومين، وما نادى بها من سياسات نصرة المضطهدين، وقد أصبح الحزب اليوم على المحك.