حرّاس الدين.. حرّاس الحدود

2021.12.16 | 05:54 دمشق

bshar-alasd-ahmd-hswn.jpg
+A
حجم الخط
-A

الدين حاجة للإنسان، ولا يمكن تجاوز هذا المعطى بسهولة، وقد كان لتغيّر نظرة البشر إلى الدين أثر كبير في تطور المجتمعات. كان الدين عنصراً أساسياً في المجتمعات البشرية منذ نشأتها، على الأقل هذا ما نعرفه منذ اختراع الكتابة. وباعتبار أنّ الإنسان كائن اجتماعي، أي وجد على الدوام ضمن وحدات متعاضدة، من أسرة إلى عائلة إلى عشيرة أو قبيلة، ومتأخراً في تاريخه إلى طائفة حرفية أو نقابة أو حزب، فقد كان لا بدّ من مأسسة الدين السائد في هذه البقعة من الأرض أو تلك، حتى يأخذ دوره الاجتماعي كما تتطلّبه طبيعة البشر ذاتهم.

أتت هذه المأسسة إذاً كصيرورة طبيعية لتطوّر جميع الأديان، السماوية منها وغير السماوية. وهذا يعني من حيث النتيجة وجود مفاهيم وتعريفات لكل دين، كما يعني وجود حدود لهذا الدين تفصله عن غيره من الأديان خارجياً، وتحدد طبيعته داخلياً بين أعضائه، أي القواعد الأخلاقية التي يتبناها الدين لضبط العلاقة بين أعضائه. قبل هذا وذاك، ترسم الشريعة في كل دين علاقة المؤمنين به بخالقهم، أي الشريعة التي تحدد من خلال الأوامر والنواهي أشكال العبادة ومساحات الحلال والحرام وواجبات أتباع الدين تجاه الخالق.

عند مرحلة معيّنة من تطوّر الدين، يبدأ التمفصل بين الواقع المعيش الذي يُفترض به أن يكون محكوماً بقوانينه الخاصّة، أي بقوانين السياسة والاجتماع والاقتصاد، وبين المقدّس السماوي

يفترض هذا كلّه في النهاية وجود هياكل تنظيمية تقوم على إنجاز هذه المهام، فلا يمكن لأي دين الاستمرار دون أن يطوّر لذاته بيروقراطية إدارية ما، كما هو حال اليهودية التي أسست بعد السبي مجموعات الأحبار الذين أعادوا كتابة العهد القديم. أو دون أن تتبناه من الخارج سلطة سياسية، كما هو حال المسيحية عندما صارت دين الإمبراطورية البيزنطية. أو دون أن ينشأ هو بذاته سلطة سياسية، كما هو حال الإسلام عندما أنشأ الرسول الأعظم أسس وقواعد دولةٍ وأمّةٍ إسلاميّتين، من شذرات قبائل متناثرة على هامش التاريخ وأطراف الحضارات السائدة آنذاك.

عند مرحلة معيّنة من تطوّر الدين، يبدأ التمفصل بين الواقع المعيش الذي يُفترض به أن يكون محكوماً بقوانينه الخاصّة، أي بقوانين السياسة والاجتماع والاقتصاد، وبين المقدّس السماوي الذي يُفترض فيه أن يكون خارج قوانين الطبيعة والبشر، فهو يخضع لمفهوم المقدّس الذي هو نتاج رسالة سماوية لا يد للبشر فيها، بل هم مجرد منفذين لها من خلال فهمهم المضبوط بقواعد إلهية بالأصل. وهذه أيضاً صيرورة تاريخية دمجت خلال مراحلها بين الدين والسلطة السياسية، فكان هناك غلبة لسيطرة الدين على السياسة بشكل أو بآخر في مراحل منها، ثم انقلبت السيطرة بالعكس في مرحلة ثانية، وأخيراً جاء الفصل بينهما في التاريخ الغربي المعاصر تحديداً كتتويج لهذه العلاقة. أُطلق على هذه الصيرورة فيما بعد اسم العَلْمَنَة.

خلال هذا التاريخ الطويل من تطوّر الأديان في المجتمعات البشرية، قاد الأفرادُ على الدوام المؤسسات التي نشأت لتنظيمها، ومع مرور الزمن صار من الممكن الفصل بين الفرد والمؤسسة التي يعمل بها أو يقودها، كما صار من الطبيعي أن يتم الفصل بين المركز أو المنصب أو الوظيفة الدينية وبين الفرد المشخّص الذي يشغله في مرحلة ما. هنا يصبح للفرد الفاني دورٌ محدود في سياق الصيرورة التاريخية المحكي عنها سابقاً، يكبرُ أو يصغر تبعاً للظروف التي يوجد بها وتبعاً لشخصيته ذاتها.

تطوّر مفهوم وظيفة أو منصب شيخ الإسلام مثلاً بشكل كبير مع الزمن، فانتقل من مجرد فرد ذي علمٍ ومعرفة ومكانة خاصّة يعمل من منزله، كما هو حال الملّا فيناري الذي كان أوّل من شغل هذا المنصب بأمرٍ من السلطان مراد الثاني (1421 - 1451)، ليصبح رأس مؤسسة حكومية كاملة أنشأها السلطان محمود الثاني (1808 - 1839). كان من مهام شيخ الإسلام تعيين القضاة ومراقبة شرعية تصرفات الحكم، وإعطاء المشورة للسلطان، والفتوى في الشؤون الدينية. بقي الحال على ما هو عليه بالنسبة لهذا المنصب، حتى انهيار الإمبراطورية العثمانية وإنهاء مبدأ الخلافة ذاته بقرار من الغازي مصطفى كمال أتاتورك.

مع بعض الاختلافات الخاصة بطبيعة المنصب، تطوّر كذلك مفهوم رأس الكنيسة متدرجاً عبر الزمن، إلى أن وصل للشكل الحالي في الكنيسة الكاثوليكية، أي منصب البابا.

يلعب حرّاس حدود الدين دوراً واضحاً في عمليات تثبيت أركان السلطة السياسية، كما يلعبون دوراً مهماً أيضاً في ذلك أثناء مراحل التغيير والانتقال من نمط إدارة أو منهج حكمٍ إلى آخر

لكي يحافظ الأفراد على امتيازاتهم التي تمنحهم إياها المناصب، أو المراكز، أو الوظائف، أو المهام الدينية، كان عليهم أن يحرسوا على الدوام حدودها. وهذه الحدود كما رأينا لا تنفصل تماماً عن حدود السلطة ولا تخرج نهائياً عن ميادين السياسة. فحتى في الدول العلمانية مثل إنكلترا والسويد وإسبانيا يبقى ثمّة طقوس دينية لتنصيب الملوك أو مراسم سياسية لترسيم قادة الكنسية. وفي البلاد الإسلامية، أو بالأصح في البلاد التي يُدين غالبية سكانها بالإسلام، يلعب حرّاس حدود الدين دوراً واضحاً في عمليات تثبيت أركان السلطة السياسية، كما يلعبون دوراً مهماً أيضاً في ذلك أثناء مراحل التغيير والانتقال من نمط إدارة أو منهج حكمٍ إلى آخر. المثال الأقرب لنا زمنياً، ما يقوم به شيوخ الدين في المملكة العربية السعودية من تغيير في الفتاوى والمناهج يتوافق مع رؤية ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.

لولا وجود إيران القوي، ليس في الخلفية فقط، بل وفي القلب من مراكز صنع القرار السياسي في سوريا، لكان بالإمكان قراءة ما أحدثه بشار الأسد من إنهاء لوظيفة المفتي العام أو دار الإفتاء وفق السياق المذكور أعلاه. ورغم إدراكنا لمدى تبعية هذه المؤسسة الدينية لنظام الحكم السياسي منذ عهد حافظ الأسد، إلا أنه سيكون علينا الانتظار بعض الوقت لمعرفة نتائج هذا التصرّف الأخير لوريثه بشار، ويمكن لنا إيراد ملاحظة عامّة عن حجم الفساد في وزارة الأوقاف السورية المسؤولة عن إدارة جميع الأوقاف الإسلامية، لنشير إلى الدور الذي يمكن أن تلعبه هذه الأخيرة لتنفيذ سياسة الإيرانيين الممنهجة في السيطرة على المشهد السوري برمّته، ليس فقط اقتصادياً وسياسياً، بل دينياً واجتماعياً أيضاً، وقد يكون هذا مدار مقال آخر نتكلم فيه بالتفصيل على ذلك.

كلمات مفتاحية