حروب بوتين "المقدّسة"

2021.09.22 | 06:18 دمشق

russiainsyria.jpg
+A
حجم الخط
-A

هل تحوّلت روسيا في عهد فلاديمير بوتين إلى دولة دينية ترسم سياساتها الخارجية الكنيسة الأورثودوكسية وليس الكرملين؟ وكيف يمكن قراءة التأثير المتعاظم لكبير أساقفتها، كيريل الأول، على الرئيس بوتين وقد بدأ الأخير يعتمد على المباركة الربوية في خوض مغامراته العسكرية الخارجية في غير دولة كما فعل في أوكرانيا ثم سوريا؟ وهل القاسم المشترك الأعظم بين اجتهاد كنيسة موسكو من طرف، والشوفينية الروسية التي ترنو إلى استعادة أمجادها القيصرية من آخر، هو الحافز الأساس الذي شجّع بوتين على الغلو في حملاته وقد أضفى عليها غطاء دينياً مقدساً حين بارك كيريل الطائرات الحربية الروسية قبيل توجهها إلى سوريا في أيلول العام 2015؟ بل هل الحروب المقدسة التي يديرها قطبا موسكو، السياسي والديني، ممثلان برأسي الدولة والكنيسة كانت حقاً لحماية المسيحيين في سوريا من المتطرفين المسلحين لتنظيم الدولة (داعش)، أم أن هدفها غير المعلن إشغالُ الشعب الروسي بغزوات خارجية بدلاً من التركيز على الوضع الداخلي المأزوم سياسياً واقتصادياً لاسيما إثر هبوط أسعار النفط الذي يشكّل الحامل الرئيس للاقتصاد الروسي وتأثير الانهيار العالمي في الأسعار بليغاً على روسيا - واحدة من أكبر منتجيه في العالم؟

تلك أسئلة غاية في الأهمية أثيرت مجدداً في الشارع السياسي الدولي إثر إصدار الرئيس بوتين أطروحته السياسية التي أتت تحت عنوان "حول الوحدة التاريخية للروس والأوكرانيين". أما المضمون الذي بنيت الأطروحة على متنه فهو الرؤية الخاصة لبوتين وقراءته للتاريخ وتفسيره لمجرياته، وقد جعل حملته ضد أوكرانيا تبدو من خلال سطورها قضية نبيلة تتعلق بحقوق الشعبين الروسي والأوكراني التاريخية.

فبوتين يرى أن "أوكرانيا المستقلة لا تتعدى كونها فكرة من أفكار العصر السوفييتي وقد تم تأسيسها على حساب الأراضي الروسية التاريخية". بل يجادل بوتين على مساحة خمسة آلاف كلمة بأن أوكرانيا ليست إلا مشروعاً غربياً مصمماً لتقويض دولة روسيا. ويختم بحتمية مطلقة قائلاً: "أنا مقتنع بأن السيادة الأوكرانية الحقيقية ممكنة فقط بالشراكة مع روسيا، فنحن رغم كل ما يحدث شعب واحد".

منذ باشر بوتين حملته العسكرية على أوكرانيا قُتل ما يزيد عن 14 ألف مواطن أوكراني ونزح الملايين عن مدنهم بفعل الهجمات الروسية المتواصلة على امتداد السبع سنوات الأخيرة ابتداء من العام 2014. حدث هذا بينما تَواصل الاحتلال الروسي الرسمي لشبه جزيرة القرم مترافقاً مع نشر وحدات روسية قتالية إضافية على طول الحدود مع أوكرانيا، ما أخضع روسيا لعقوبات دولية قاسية ومتعاظمة بتعاظم التعنت الروسي وإصراره على عدم التراجع عن موقفه السياسي والعسكري الخطير هناك، وكذا أدّى إلى خلق حالة من التجاذب السياسي بين روسيا من جهة، والغرب الأميركي والأوروبي من أخرى، هي أشبه بحرب باردة جديدة.

ومن الواضح أن قرار بوتين بالتمترس في موقفه يعود إلى رغبته في "خربطة" الأوراق السياسية الدولية وإحداث مواقع جديدة للمواجهة مع الغرب هدفها الإعلان عن عودة روسيا إلى الملعب الدولي بقوة سلاحها إثر انهيار الاتحاد السوفييتي بقوة سياسات الغرب. فهو يجزم أن انحياز أوكرانيا إلى المعسكر الغربي، الذي بدأ مع اندلاع الثورة البرتقالية في العام 2004، إنما جاء كنتيجة مباشرة لغياب روسيا القوية خلال فترة انحسار الاتحاد السوفييتي.

أما ثورة السوريين في العام 2011 فكانت تحت مجهر حلفاء النظام السوري في موسكو منذ أيامها الأولى. فالفكر الشوفيني الانعزالي المتقمّص لقيم الاشتراكية والعدالة الاجتماعية المدّعاة في موسكو إنما يمثل البعد الأيديولوجي لنظام البعث الحاكم على امتداد خمسة عقود من الزمن مع حكم الأسدين الأب والابن.

من هذا المنطلق بدا التحالف الاستراتيجي العميق بين دمشق وموسكو مدخلاً مشروعاً ستستغله الأخيرة في العام 2015 في مشهد طقسي خالص، مدّعيةً حماية الأقليات المسيحية إثر تعاظم عمليات متطرفي داعش وتكرار اعتدائاتهم على رموز الدين المسيحي في سوريا. ومن طرف آخر، أرادت روسيا من تدخلها في سوريا أن تخطو خطوة متقدمة باتجاه سواحل البحر المتوسط المتشاطئة مع المياه الأوروبية لتشهر حرباً باردة جديدة على أعتاب القارة العجوز انتقاماً لانهيار جدار برلين، ولتضع بالتالي دولَ الاتحاد الأوروبي ومن ورائها الولايات المتحدة الأميركية في مواجهة مسؤوليات وأعباء حربها تلك غير المعلنة.

لقد اتخذ بوتين من الأرض السورية مساحة مثالية لتوطيد دعائم عودته إلى الحلبة الدولية بعد أفول نجم الاتحاد السوفييتي، وكذا لتثبيت قواعد روسيا العسكرية على شواطئ المياه الدافئة لأول مرة في تاريخها كما في قاعدة حميميم على الساحل السوري. ورأى بوتين في تقدّمه نحو المتوسط مربّعاً مثالياً لممارسة هواية المبارزة مع الخصم الأميركي اللدود الذي يقيم قواعده في الجهة المقابلة من الحدود السورية، بينما يشتدّ أوار المنافسة على تبادل الأدوار واقتسام النفوذ في سوريا المنهكة من حروب تطاولت على أرضها وشعبها، وبدّدت الحلم الذي قاده ثوار العام 2011 السلميّون بهدف تحقيق التغيير السياسي المنشود وإقامة دولة جديدة تواكب العصر في الحكم الرشيد والتعددية المجتمعية وسيادة القانون.

فصل المقال يكمن في محاولة بوتين تسويق "المقدّس" في حربه على الشعب السوري الكليم على أنه تنفيذ لإرادة السماء في حماية المسيحية الأورثودوكسية في بلاد الشام، بينما كانت  حرب "البراميل" العمياء تثير بقوة في الذاكرة الشعبية مشاهد مؤلمة من تاريخ الحملات الاستعمارية على المنطقة على هيئة الحملات الصليبية التي الصليب منها براء.