حروب بالملاعق ومعارك أهلية بالأطباق

2021.01.04 | 00:00 دمشق

alshyf-altrky-bwrak-ystqbl-wly-hd-dby-btryqt-mmyzt.-fydyw.png
+A
حجم الخط
-A

لا أظنّ أن لدعوة الإمارات الطباخَ التركي المعروف محمد براق ازدمير صلة بالمشهد الذي سربتّه المخابرات البريطانية للشيخ بن زايد وهو يأكل مع الربع والعشيرة، وكان آباؤنا يأكلون بتلك الطريقة قبل شيوع الملاعق والأشواك، وللأكل باليد محاسن كثيرة:

أذكر منها: ضمان النظافة، تقدير حرارة الطعام، حسن التخاطب بين أصابع اليد والفم ونفي كيد الملعقة الحديدية العذول، كما أنه أشهى وأطيب، وقبل هذا كله الأكل باليد سنة نبوية.

ما حدث أنَّ حكام الإمارات تنكّروا لآبائهم وأجدادهم، بدليل غضبهم من تسريب التصوير. كنا نأكل بتلك الطريقة وما زلنا، مع فروق بسيطة، فلم نكن نقطّع اللحم بالأيدي كما فعلوا فعجزوا لعدم نضوج اللحم، أو قد نفعل، ولم نكن نتجول بين قصعات الطعام وكأننا نلعب لعلة الكراسي، وقد نفعل، وقد يجد المُشاهد جمالًا في بعض المَشاهد المصوّرة. وجاء في مقدمة الفيديو أن ذلك كان قبل الثروة النفطية.

 وهذا يعني أنه صاروا يأكلون بالشوكة والسكين ليس لحوم الضآن وإنما لحوم الأشقاء العربان.

الشيخ زايد لا يدرك وهو يأكل أن هناك كاميرا تتجسس عليه، أو لا يدرك معنى الصورة، فما العيب في الأكل باليد

في الفيلم نجد وقاحة عين الكاميرا الجاسوس التي تتبّعت عورات الآكلين، فاقتربت من الأفواه والأنياب وجعلته مشهدًا مخزيًا يثير الشفقة أو الشماتة، ويهيج غضب حكام الإمارات، بل إن الشيخ زايد لا يدرك وهو يأكل أن هناك كاميرا تتجسس عليه، أو لا يدرك معنى الصورة، فما العيب في الأكل باليد.

إن غضبَ حكام الإمارات ليس سببه عِظَم المفارقات بين الأمس واليوم، وليس طريقة الأكل، فالحضارة والرشد في العقل وليس في المعدة. ولو قارنا بين الحضارتين العربية الإسلامية والحضارة الغربية، لوجدنا عيوبا في النظافة لم يعرفوها إلا مؤخرا، وليس هذا موضع المفاضلة بين مائدتين، وقضيتنا هي أن الإمارات قررت أن تخطف طباخ إسطنبول الشهير.

أول مشهد حرب كوميدية بالأطباق غير الطائرة شاهدناه في السينما، كان في فيلم هندي عنوانه "الواجب"، ثم رأيناه في أفلام الكوميديا الكثيرة، وما زال المخرجون يستفيدون من مفارقات التضارب بصحون الأكل المليئة بالأطعمة المعجونة واللبنية، ولم يكن ذلك هو المشهد الأول، فالسينما الهندية مقلدة، وأول من ابتدعها هو ملك الكوميديا شارلي شابلن، وحروب الأطباق هذه المرة هي بين الدول، ولن تكون كوميدية. فصراعاتنا الكبرى هي في النهاية على الأطيبين، غنائم الغزو القديمة هي غنائم الغزو الحديثة: المال والسبي، وإن اختلفت الطرق والوسائل والأسماء والصفات.

 لقد فشل الانقلاب العسكري على أردوغان، لكن خصومه لا ييأسون، والإمارات تستعد لانتخابات الرئاسة بعد سنتين، فدعت الطباخ محمد براق ازدمير، الذي فتح القلوب بقصفها بروائح الطعام، ودكّها بمشاهد اللحم المشوي، وهو صاحب براعات وأعمال خفة لا يتقنها سوى لاعب سيرك، فهو يستطيع أن يقطع البصل وهو مغمض العين، وله مستشارون في الإخراج والإعلان والتصوير، ومائدته التي يعدّها ملحمية، إنه أحد ملوك الموائد، وكان منظره وهو يقود ثورًا عملاقًا إلى الذبح، والثور ضاحك باسم في عيد الأضحى مشهدًا مؤثرًا.

براق طباخ تركي وسيم من أصل عربي، ومن أتباع الرئيس التركي ومناصريه، فوالداهما أصدقاء قدماء، وقد نوت الإمارات التحالف التجاري معه، لعل ذلك يقود إلى تحالف سياسي، فيسّرت مدخله، ودعته إلى الإمارات من غير جمارك أو تأشيرات، وغرضها التأثير على الانتخابات الرئاسية القادمة، فلملك الطبخ التركي ثلاثة ملايين متابع في ثكنات التواصل الاجتماعي.

رحبت الإمارات برئيس دولة الطبخ، فزيّنت برج خليفة باسمه، وهو أعلى برج في العالم، وهو كعبة الإمارات التي تعلن عليها أسماء أبطالها كما كانت تعلق على كعبة مكة القصائد، وقد استنفرت لاستقباله مطرب مصر "نمبر ون"، فأحضرته على عجل بعد استئذان واليها على مصر عبد الفتاح السيسي لاتخاذ الصور التذكارية مع الريّس براق.

تلك وصفات في الحرب والكيد والمكر والهجاء، يجري إعدادها على نار هادئة لافتراس ما بقي من عواصم لم تؤكل بعد

ومن حروب الأطباق والموائد حرب طبق الكسكس التي أعلنتها اليونسكو على المغرب، إذ جعلت هذا الطبق المغربي من الأطباق المشمولة برعايتها ونعمتها وبركتها، فوضعت اسمه على قوائم اليونسكو الثقافية، الطبق ليس تمثالًا فيكسر ولا جنديًا فيؤسر، فهو طبق يأكله الملايين في الجزائر وتونس والمغرب، بل شاع في مصر وبلاد الشام وإعداد الوجبة ليس سرًا، ولا مصفوفة حسابية، وغرض اليونسكو من ذلك التقديس للطبق أن تستبدل به روابط أهل المغرب من دين ولغة وعادات وروح مشتركة، بالطعام، والبرهان هو أنَّ وزيرة الثقافة المغربية مليكة بن دودة صرحت في الميدان، أنَّ الزوجة التي لا تجيد طبخ هذه الوجبة مهددة بخراب البيت وغراب البين! وآزر السيدة "دودة" رئيس الحكومة السابق في الجزائر أحمد أويحيي، فأكل لقمة من الطبق الشهير، بعد إعلان اليونسكو، وهتف قائلًا: إن هذا الطبق جزائري، يريد أن يبث العداوة والبغضاء بين الأشقاء على ملكية ابتداع هذا الطبق الذي نسب إلى ملك أمازيغي قديم، يعود عهده إلى ما قبل الميلاد، كان عميلًا للرومان اسمه الملك ماسينيسا.

تلك وصفات في الحرب والكيد والمكر والهجاء، يجري إعدادها على نار هادئة لافتراس ما بقي من عواصم لم تؤكل بعد، أما العواصم العربية الكبرى مثل القاهرة ودمشق، كبرى الحواضر العربية، فقد افتُرست، فشعوبها تتحسر على رغيف خبز، وليست مثل عواصم المغرب التي يجري إثارة غيرتها على طبق الكسكس. الذي يخشى من أن تدسَّ فيه منظمة اليونسكو ملحا كثيرا فيعطش أهل المغرب، أو ثوما فيجعل الشعب المغاربي ينفر من بعضه البعض.

كلمات مفتاحية