حروب الظل إلى أين...؟!

2023.06.06 | 05:33 دمشق

حروب الظل إلى أين...؟!
+A
حجم الخط
-A

في الواقع إن أنواع وأجيال الحروب فد تطورت تطورا كبيرا خلال العقود القليلة الماضية، وذلك بالتأكيد جاء متماشيا مع التطور التكنولوجي والتقني الكبير الذي حدث وما يزال يحدث على وسائط وأساليب وتكتيكات خوض الصراعات المسلحة بكل أنواعها وأشكالها، ابتداء من الحروب التقليدية والمتماثلة وليس انتهاء بالحروب الهجينة وحروب الظل والفضاء وبقية أنواع الحروب.

عمليا عادة ما تنشب الحروب بين الدول لأسباب عديدة ومختلفة ولكنها غالبا ما تقع حتميتها عندما تعجز الطرق السلمية والدبلوماسية المتعددة عن إيجاد مخرج للأزمات والنزاعات، وعليه فالمفكر الاستراتيجي البروسي الجنرال "كارل كلاوزفيتز" قال مقولته الشهيرة «إن الحرب عموما تعتبر امتدادا للسياسة بوسائل وأساليب مختلفة»، وذلك معناه أن أية أعمال ومواجهات عسكرية تقع بين الدول لا بدّ أن تقف خلفها أهداف سياسية يجب على أحد طرفي القتال أن يحققها ويفرضها لتصبح واقعا ملموسا، وهذا يعني أنه لو تحققت الأهداف السياسية المرجوة بالوسائل البديلة الأخرى فعندها يصبح لا داعي للحرب أو العمل العسكري.

لاشك أن العالم ومنذ أن وجد قد تضرر أشد الضرر من الحروب التي دارت على مر التاريخ وخاصة في العصر الحديث ونشوب الحرب العالمية الأولى والثانية، وعليه فقد توصل القادة من سياسيين وعسكريين إلى مفهوم مفاده ألا فائدة ترتجى على المدى الطويل من الاستمرار في الحروب التقليدية التدميرية وخاصة بعد التقدم النوعي وظهور عصر الأسلحة النووية التدميرية وبدايات الحرب الباردة، ومن أجل كل ذلك فقد استنتج الجميع وخاصة القوى العظمى والكبرى أن الحروب والصراعات العسكرية لم تعد هي الحل الأنجع والأمثل لإنهاء النزاعات بين الدول، بل يوجد حلول أخرى يمكننا بها حل الصراعات، فظهرت حروب الظل والحروب الاقتصادية والثقافية والسياسية وغيرها، وبانهيار الاتحاد السوفييتي أصبحت ما يسمى ”القوة الناعمة” هي السلاح المفضل للعديد من الدول والبديل عن خوض المواجهات المباشرة المكلفة.

حروب الظل تعريفها مفهومها

حروب الظل هي عمليا معارك لا وجود لها ولا تخاض بشكل رسمي على أرض الواقع، لأن الجيوش النظامية التقليدية المتصادمة أصبحت تستعيض عن قوتها وصراعها الدامي بمجموعات من المرتزقة والعصابات، والوسائط التقنية والهاكر وطائرات الدرون وغير ذلك. أي بمعنى أنه قد أصبحت الحروب بين الأطراف الفاعلة تقع في المنطقة الرمادية حيث تقوم مجموعات المرتزقة وخبراء الأسلحة الرقمية بالعديد من النشاطات التخريبية مثل الهجمات السيبرانية التي يكلفهم بها أصحاب قرار كبار يفضلون البقاء فيها من وراء الحجب وفي الخفاء، وعادة ما يطلق مصطلح حروب الظل على تلك النوعية من استخدامات القوة الضاغطة التي تقوم بها أجهزة المخابرات المتعددة وأجهزة أخرى من أجل تحقيق أهداف سياسية لعل من أبرزها تأجيل لحظة المواجهة المفتوحة والشاملة، أو العمل تماما على السيطرة على ساعة صفرها من ناحية أخرى.

إن مفهوم حروب الظل يستخدم وبشكل كبير ومتزايد عند الحديث عن حالات من الصدام العسكري التي تركز على إعلان وإظهار المصداقية في التهديد، أو إرسال الرسائل التي تفيد بأن المواجهة الشاملة سوف تكون حقيقة واقعة ومؤلمة ومكلفة لجميع الأطراف، وربما تكون هذه الحرب أيضا متزامنة مع عمليات تفاوضية جارية ولخدمتها بالفعل. ومن الأمثلة الجارية حاليا في منطقتنا على حروب الظل والتي تتمثل أقلها في حربين:

الأولى: بين إسرائيل وإيران والتي عبرت فيها تل أبيب وبشكل واضح عن استعدادها لممارسة الضغط العسكري بكلّ أشكاله وذلك لمنع إيران من إكمال وتطوير مشروعها النووي، وزيادة صادرات الأسلحة من الصواريخ الدقيقة والمسيرات باتجاه حزب الله وميليشياتها في سوريا، َلذلك نرى أن إسرائيل زادت من غاراتها على الأهداف الإيرانية في الداخل السوري خلال الأشهر الأخيرة الماضية، ناهيك عن تعاظم حرب الظل تلك بين إسرائيل وإيران قرب مضائق التجارة العالمية وفي الخليج العربي ومن خلال الاغتيالات للعلماء النوويين ولكنها في الواقع حرب غير مباشرة وغير تقليدية، وعادة ما تستخدم فيها وعلى أعلى المستويات الحروب السيبرانية والإلكترونية كما هو الحال في الهجوم السابق على موقع نطنز النووي.

حقيقة تجري "حرب الظل" بين إيران وإسرائيل خلال الأعوام الماضية على نار هادئة عبر توجيه ضربات وهجمات سيبرانية، بالإضافة إلى مهاجمة ناقلات النفط وسفن الشحن التجاري، غير أنَّ هذه الحرب ما لبثت أن دخلت إلى مرحلة نوعية جديدة وذلك عبر توظيف الطائرات المسيرة "الملغمة" بأنواعها المتعددة في استهداف ناقلات النفط خاصة. وفي المحصلة ينخرط الطرفان فيما يبدو أنها "حرب الظل"، إذ يهاجمان بعضهما بعضا على الأرض وفي الجو وعبر البحر، لكن بصمت وفي بعض الأحيان عن طريق توظيف الوكلاء، والأذرع غير أن طهران وتل أبيب تتفقان في الغالب على تجنب المواجهات التي تهدد برفع مستوى التصعيد وتنذر إلى حرب شاملة، ويفضلان عوضا عن ذلك اتباع سياسات "الإنكار".

أما حرب الظل الثانية فهي تلك الحاصلة بين الولايات المتحدة وإيران في كل من العراق وسوريا، وربما بدأت هذه الحرب منذ زمن طويل نسبيا، ولكنها أخذت منحى تصاعديا منذ انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي في أثناء ولاية الرئيس "دونالد ترامب"، واندفع المنحنى تصاعديا إلى أعلى أكثر بعيد اغتيال الجنرال "قاسم سليماني" قائد فيلق القدس في العراق بتاريخ 3 من يناير 2020، حيث يعتبر سليماني هو المسؤول عن العمليات الثورية الإيرانية خارج إيران، وخاصة تلك الحاصلة في الدول العربية. عملية القتل هذه ولدت غضبا هائلا في طهران، فكانت الساحة العراقية والسورية مصدرا لعدة هجمات إيرانية على القواعد الأميركية حيث تمتلك إيران غطاء وأذرعاً من قوات الحشد الشعبي العراقية والميليشيات الطائفية، حيث وجهتها لاستهداف صيد ثمين تمثل بالقوات الأميركية المنتشرة في إيران وسوريا.

ختاماً.. إنّ “حروب الظل” تحدث عادة في حالات اللا سلم واللا حرب، كما أنها غالبا تخلط ما بين الأعمال الاستخبارية والتقنية السرية وبين القوة العلنية الخشنة، كما أنها تجري على أكثر من صعيد وأكثر من جبهة، وداخل أكثر من ساحة في الوقت ذاته. ولذا فإن سرعتها وقوتها غالبًا ما تكون مخيفة. وغالبا ما تكون حروب الظل القائمة بين الأطراف لفترات قد تكون طويلة، ولكنني هنا أعتبرها في الواقع مشكلة حقيقية ومعضلة كبرى فعادة ما تكون هذه الحرب المستترة مقدمة وتمهيدا لاندلاع حروب كبيرة لا تبقي ولا تذر ما لم يجر التدخل لإيقافها ومنع اشتعال فتيلها.