حرف القاف والمظلوميات المتعارضة

2021.09.08 | 06:55 دمشق

254596-531019125.jpg
+A
حجم الخط
-A

ثمة جملة في إحدى القصائد البديعة للشاعر اللبناني الراحل عصام العبد الله عن مدينة بيروت تصلح لأن تعمم على كل العواصم العربية: (بيروت عنقود الضيع)، فالعاصمة في بلداننا العربية ذات الحكم المركزي سوف تكون هي دائما مركز الجذب لأبناء المناطق الأخرى والأقاليم والأرياف، كما لو أن العاصمة هي العنقود الأساسي الذي يجمع شمل الحبات المختلفة القادمة من كل المناطق الأخرى، ولطالما كانت دمشق تشبه العنقود الذي تحدث عنه عصام العبد الله، تجمع السوريين المختلفين القادمين إليها بوصفها العاصمة أولا، وبوصفها مركزا إداريا وإقتصاديا وثقافيا وعسكريا ثانيا، حيث كان يقال إنه يمكنك أن تسمع في دمشق، لو جلست في مقهى من مقاهيها المشهورة في زمن ماض، لهجات مختلفة ومتداخلة، إذ تختلط لهجات أبناء بعض المناطق السورية بلهجات ضيوف دمشق الذين يقصدونها من الدول المجاورة، فلا تختلف كثيرا لهجة منطقة الجزيرة والبادية السورية عن لهجات عراقية مختلفة، مثل لهجة أهل سهل حوران المماثلة للهجة الأردن وبعض مناطق فلسطين، وتتشابه لهجة الساحل السوري مع لهجة مناطق لبنانية عديدة، سواء المدن أو الجبل، بينما تميزت المدن الرئيسيىة الثلاث: دمشق وحلب وحمص، بلهجات خاصة ومختلفة، حتى عن لهجة أرياف هذه المدن.

سادت اللهجة البيضاء حتى أصبحت هي اللهجة التي نتحدثها حينما نكون في العمل أو في المقاهي أو في أي مكان للتجمع في دمشق

هذا التنوع في اللهجات كان يلزمه في دمشق لهجة محايدة أو لهجة بيضاء كما تم التعارف على تسميتها، لهجة ظهرت مع مرور الزمن، قريبة من لهجة أهل دمشق العاصمة، لكنها متخففة من الثقل والمط الذي يميز لهجة الدمشقيين الأصليين، لهجة صار معظمنا يتكلم بها، نحن سكان دمشق القادمين من مناطق مختلفة من سوريا: الساحل، الجزيرة، حلب، حمص، السويداء، درعا، حماة، إلخ، حيث لا يمكن تمييز الانتماء المناطقي إلى أي أحد من لهجته، سادت اللهجة البيضاء حتى أصبحت هي اللهجة التي نتحدثها حينما نكون في العمل أو في المقاهي أو في أي مكان للتجمع في دمشق، أما لهجاتنا الأساسية فكانت تعود مباشرة حين نتحدث مع أحد من الأقارب الذين حافظوا على أصالة لهجاتهم، أو في حالات الغضب، حيث يتمكن الغضب الشديد من إزالة كل الأقنعة التي راكمناها جميعا في حياتنا اليومية ويعيدنا إلى أصولنا الأولى، إلى ما نشأنا عليه، إلى ما تعلمناه في طفولتنا، اللغة طبعا هي أول ما نتعلمه، اللغة كما ينطقها أباؤنا وأجدادنا.

يحتل حرف القاف في اللهجات السورية حيزا كبيرا، حيث يلفظه أثناء الكلام، سكان الساحل السوري، ومنطقة جسر الشغور في الشمال الغربي، وسكان جبل العرب، وسكان منطقة الحسكة، وسكان ريف حماة وريف حمص، وبعض أرياف البادية، ويمكن أن يتحول في بعض اللهجات إلى (ك عراقية أو فلسطنية)، هذا يعني أنه ليس حرفا يختص بأهل الساحل السوري فقط (العلويون) منهم على وجه الخصوص، أو سكان الجبال، إذ إن أهل مدينتي اللاذقية وطرطوس وبانياس وجبلة لا يلفظونه أثناء الكلام، بينما هو حرف واضح في ريف هذه المدن، حتى الأرياف القريبة جدا أو الملاصقة لها، هذا الحرف الذي كنت ستسمعه كثيرا في دمشق، حيث لم يرد عديدون تبني اللهجة البيضاء، وظلوا محافظين على ما اعتادوا عليه طوال حياتهم.

قبل أيام نشر موقع رصيف 22 مقالا لكاتبة سورية شابة (ريم محمود) بعنوان: (أخفيت طائفتي العلوية كما لو أنها جريمة) تتحدث فيه عن خوفها وهي طفلة في المدرسة الابتدائية من معرفة انتمائها الطائفي كي لا تتعرض للتنمر والسخرية من باقي زميلاتها، ورغم أن ما سردته عن هذا الأمر، والمقال عموما، غير مقنع ويحمل مظلومية لا يمكن لتلميذة في الابتدائية أن تشعر بها، إلا إذا كانت عائلتها تتبنى تلك المظلومية وأنشأت أبناءها عليها، وهو ما لا يجوز تحميله للمجتمع، بل للعائلة نفسها، إلا أن ما لفت نظري في المقال هو حديثها عن حرف القاف تحديدا، وخجلها أمام زميلاتها من لهجة والدها الذي يلفظ حرف القاف، فعلى ما يبدو أن الكاتبة لا تعرف شيئا عن اللهجات السورية، وعن سوريين ليسوا (علويين) يتحدثون بلهجة لا تختلف أبدا عن لهجة (العلويين) بحرف القاف نفسه، فاعتبار حرف واحد هو مؤشر على الطائفة فيه من الجهل بأصول اللهجات السورية كثير، ولا يمكن التذرع بيفاعة سن الكاتبة، إذ إن عالم الإنترنت لم يبقِ شيئا مخفيا عن أحد.

من المفيد القول إن حرف القاف ذاته استخدمه سوريون عديدون قبل الثورة كنوع من التباهي بالتقرب من النظام

وبالطبع فإن الحديث عن الفيديوهات التي تم تسريبها في بداية الثورة لعناصر الأمن والجيش وهم يقومون بتعذيب المعتقلين ويتحدثون بالقاف لزيادة الشحن الطائفي، وهو ما أعطى  مفعولا إيجابيا للنظام في هذا الخصوص، أصبح حديثا معادا ومكررا مئات المرات، ولن يضيف أي جديد، إلا أنه من المفيد القول إن حرف القاف ذاته استخدمه سوريون عديدون قبل الثورة كنوع من التباهي بالتقرب من النظام، أو لمحاولة (دبر راسك) في شؤون وظيفية وإدارية، وهي المرحلة التي تحكي فيها الكاتبة أنها كانت تخجل من لهجة والدها، أي قبل الثورة بسنوات، ومن المفيد أيضا الإشارة إلى أن المظلومية التي اعتمدتها الكاتبة عن حرف (القاف)، قابلتها مظلومية معاكسة بعد الثورة، تكشف جهلا مشابها لجهل الكاتبة بطبيعة وأصول اللهجات السورية، حيث بدأ (ثوار) سوريون يسخرون من حرف القاف ويشتمون من يلفظه، بفرضية أن (العلويين) كلهم (مجرمون)، متجاهلين تماما ما كان يحدث قبل الثورة بهذا الخصوص، ومتجاهلين أيضا أن مناطق سورية كثيرة تتحدث باللهجة نفسها.

لا شك أن الطائفية باتت جزءا من الحالة السورية، وأنها لم تكن نتيجة الثورة بل نتيجة سياسات اشتغل عليها النظام على مدى عقود، جرف فيها كل أثر للمدنية في المجتمع السوري وألغى هوية المواطنة لصالح الهويات العابرة للوطنية، ولكن لاشك أيضا أن الحديث عن مظلوميات طائفية ومذهبية متقابلة ومتعارضة ليس سوى مساهمة في تدمير ما تبقى من الكيان المجتمعي السوري، سواء عن قصد أو غير قصد، الأمر سيان هنا.