حرب غزة وفصام مثقفي النظام السوري
خلال الشهر الماضي وأنا أتابع صفحات مثقفين سوريين، بعد عملية طوفان الأقصى وما تلاها من حرب مجنونة على غزة، أدهشني التناقض المهول بين مواقفهم من الحدث السوري خلال عقد كامل وبين موقفهم الحالي من أحداث غزة.
ذلك أن معظم هؤلاء كانوا وما زالوا يشتمون الثورة السورية، ويعتبرونها ثورة إسلامية لا تتناسب مع سوريا (العلمانية)، وكانوا وما زالوا يشتموننا نحن -زملاءهم- مَن كانوا يوماً أصدقاءهم، على مواقفنا المؤيدة للثورة والمعارضة لنظام الأسد، على اختلافات مواقفنا، فمنّا مَن كان ضد العسكرة والأسلمة ومنّا مَن رحّب بهم، ومنّا أيضاً مَن لم ينخرط في أي مؤسسة معارضة ومنّا من اقتحم هذا العالم بكل تفاصيله، ومنا مَن تغيرت طبيعة تفكيره منذ 2011 وحتى الآن، ومن أصبح أكثر راديكالية في معاداة نظام الأسد ومَن أصبح أقل تشدداً.
حتى في العلاقة مع كتلة المؤيدين للنظام اختلفت مواقفنا، لم نكن يوماً كتلة واحدة متشابهة منذ بدأت الثورة وحتى الآن، ومع ذلك يصر هؤلاء المثقفون الذين كان بعضهم بمنزلة الأصدقاء على وضعنا جميعاً في شتيمة وتهم متشابهة كالعمالة لإسرائيل والغرب..
حتى في العلاقة مع كتلة المؤيدين للنظام اختلفت مواقفنا، لم نكن يوماً كتلة واحدة متشابهة منذ بدأت الثورة وحتى الآن، ومع ذلك يصر هؤلاء المثقفون الذين كان بعضهم بمنزلة الأصدقاء على وضعنا جميعاً في شتيمة وتهم متشابهة كالعمالة لإسرائيل والغرب والتحالف مع الإسلاميين وبيع الثورة والهروب خارج سوريا والرغبة في استمرار الثورة ونحن في الخارج، إلى آخر هذه الاتهامات والشتائم التي نقرؤها يومياً على صفحاتهم وتمس كل من يعمل في مجال الفن والثقافة والكتابة والصحافة ممن أيد الثورة السورية منذ اللحظة الأولى.
لا بأس! لنفترض جدلاً أن الثورة السورية كانت ثورة إسلامية ولا تتناسب مع (علمانية) سوريا، مع أنها لم تكن كذلك في بداياتها ومع أن المجتمع السوري هو مجتمع مسلم وسطي مديني وريفي، ووجود أقليات فيه لا ينفي هذه الحقيقة مطلقاً.
هل إسلامية الثورة تستحق وصمها بالإرهاب لتبرير كل الإجرام الذي حصل ضد السوريين الثائرين؟ هذا سؤال أود توجيهه إلى كل شخص منهم، هل العقيدة تستوجب القتل؟ فإذا كانت كذلك فيجب عليكم عدم استنكار أية جريمة قتل يرتكبها الناس بسبب اختلاف العقيدة؟ يجب عليكم عدم إدانة إسرائيل في جرائمها ضد الفلسطينيين والعرب، فإسرائيل تتكئ على العقيدة في حربها ضد الفلسطينيين، خاصة في الحرب الأخيرة على غزّة التي يبررها الكثير من الحاخامات اليهود ويجدون لها الذرائع من قلب التوراة.
هل يختلف ما تفعله إسرائيل بمباركة من الحاخامات عما فعله حزب الله والميليشيات التابعة لإيران في سوريا وبمباركة من ولي الفقيه في إيران؟ ألم يستخدم هؤلاء أيضاً راية الحسين ونصرة زينب لتبرير جرائمهم ضد السوريين؟ قبل عدة أعوام أيضاً باركت الكنيسة الروسية الرئيس الروسي بوتين وباركت جيشه واعتبرت حروبه في سوريا حروباً مقدسة؛ هذا كله يجعلنا نتساءل عن الفرق الذي وجده مثقفون سوريون بين العقيدة التي برّرت أسلمة الثورة السورية وعسكرتها/ السنية أو اليهودية وبين العقيدة الشيعية أو المسيحية، وكل هذه العقائد تبرر القتل وتمنح القتلة الذرائع والحجج المناسبة لاستمرار الحروب وتبرير الجرائم.
يتسابق اليوم هؤلاء المثقفون في إعلان عدائهم لإسرائيل وتضامنهم مع الفلسطينيين، ويزايد بعضهم على بعض في تأييد المقاومة، وهي تتمثل اليوم في حماس وكتائب شهداء الأقصى والجهاد الإسلامي، وكلها حركات تتبع الإسلام السياسي، الذي لطالما اتهم هؤلاء الكثير من مثقفي الثورة السورية بالعمالة له وببيع الثورة السورية له.
يبرّر هؤلاء موقفهم بأن هدف الإسلام السياسي في فلسطين هو دحر الاحتلال بينما في سوريا فهدفه هو استلام السلطة، لهذا فهم يدعمونه في فلسطين ويعادونه في سوريا، ويتهمون الفلسطينيين السوريين الذين وقفوا مع الثورة بأنهم تابعون له، لهذا يستحقون القتل والحصار والتجويع والتنكيل والحرق الذي مورس عليهم في المخيمات الفلسطينية بدمشق ودرعا واللاذقية وحمص، فهم بالنسبة لهؤلاء المثقفين، داعمون للإرهاب، والنظام السوري وميليشيات إيران والقوات الروسية لديهم مهمة نبيلة هي القضاء على الإرهاب بمباركة من كبار رجال الدين في دمشق وإيران وروسيا؛ هل من براغماتية وميكيافيلية أكثر من ذلك؟
ويتقاطع ذلك أيضاً مع ميكيافيلية الإسلام السياسي، ألم يشكر إسماعيل هنية إيران وسوريا وحزب الله؟ مع أنّه لا إيران ولا سوريا ولا الحزب تدخّلوا في الحرب، ولولا الدقائق القليلة التي أُعطيت لبشار الأسد في قمة الرياض الأخيرة لقول بعض الجمل الإنشائية لما كان هناك موقف سوري رسمي واضح من الحرب.
وبالمناسبة قد تكون من أكثر المواقف سوريالية حاليا هو وجود بشار الأسد في قمة استثنائية طارئة للبحث في سبل وقف المجازر المرتكبة بحق الفلسطينيين، ذلك أنه في الوقت الذي كان يتحفنا بكلامه عن جرائم إسرائيل، كانت قواته تواصل قصف المدارس والمشافي والمخيمات في إدلب، والضحايا معظمهم أطفال ونساء وأغلبهم ممن هُجّروا سابقاً في صفقات تمت بين الكتائب المسلحة التابعة للإسلام السياسي في مناطق الثورة وبين النظام والقوات الروسية والإيرانية، هل يختلف هذا عما تفعله قوات الاحتلال في غزة؟
الحديث عن جرائم نظام الأسد بحق الفلسطينيين في سوريا بات من النوافل وعلى مرأى ومسمع العالم والزعماء العرب والمسلمين، الذين كانوا يصافحونه ويصفقون لكلامه في السعودية، قبل أيام..
طبعاً الحديث عن جرائم نظام الأسد بحق الفلسطينيين في سوريا بات من النوافل وأيضاً على مرأى ومسمع العالم ومرأى ومسمع الزعماء العرب والمسلمين، الذين كانوا يصافحونه ويصفقون لكلامه في السعودية، قبل أيام، وعلى مرأى ومسمع المثقفين السوريين الذين يعتبرون كل من أيد الثورة السورية تابعا للإسلام السياسي، الإرهابي في سوريا والمقاوم في غزة.
لكن بالطبع علينا أن نفهم أن موقف هؤلاء المثقفين ناطق عن الهوى، والهوى هنا الأيديولوجية أو العقيدة الحزبية أو المذهبية، وفي كثير من الحالات تختلط العقيدتان مع محاولات أصحابها التطهر من المذهبية لصالح الحزبية، لكن الاتجاهات التي يسلكونها في مواقفهم والتي تتبع اتجاهات النظام السوري بالخطوة تكشف هذا التطهر وتفضحه وتعريه؛ يُضاف إلى ذلك أن مواقفهم الصاخبة والحماسية ضد العدو الصهيوني هذه الفترة والمؤيدة لحماس بوصفها مقاومة هي محاولات جديدة للتعمية على مجازر النظام المتواصلة في إدلب، ولصرف النظر قليلاً عن الحراك السلمي المتواصل منذ أشهر في السويداء والذي يطالب بتغيير النظام.
كما أن هذه الحماسة تبيّض صفحتهم قليلاً أمام جمهور عربي يتابعهم أو يقرأ لهم، فالموقف من العدو الإسرائيلي وأنت في سوريا لن يكلفك دفع أي ثمن ولن يعرضك لأي شيء، بل العكس تماما سيجعلك مناضلا ووطنيا أمام مجموعة من السذج الذين يعتقدون على طريقة الزعماء العرب أن "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، وأن الحديث عن الفساد والجوع والقهر والقمع والإجرام والقتل والتهجير ما لم تكن إسرائيل هي من تقوم به فصاحبه طابور خامس وخائن وعميل.
رغم أن هؤلاء مكشوفون منذ زمن إلا أن حرب غزة عرّتهم أكثر وأظهرت ازدواجيتهم أكثر وكشفت براغماتيتهم أكثر، ولولا أن الموقف من العدو الإسرائيلي هو موقف أخلاقي وإنساني ولولا أن إخوتنا في غزة يظلمون كما ظُلم سوريو الثورة ممن بقوا في الداخل طيلة السنوات الماضية لصمت أغلبنا عن التعليق على الحرب تاركين لهؤلاء ولأمثالهم من الفلسطينيين والعرب من داعمي نظام الأسد الجعجعة المتواصلة التي يتحفوننا بها على وسائل التواصل.