"حرب بالوكالة" مسرحها الجغرافيا الأوكرانية..

منذ انطلاقتها واشتعالها ويوما بعد آخر فالحرب الروسية الأوكرانية التي توشك أيام عامها الأول أن تكتمل، تدخل هذه المواجهات أكثر وأكثر في حسابات ومفترقات ومتاهات دامية متخذة أشكالا وأساليب صراع استنزافية جديدة، وذلك من خلال زج كلا الطرفين لوسائط صراع وعتاد وأسلحة تدميرية حديثة فيها، يترافق هذا كله مع الرفض الذي يبديه كل من طرفي الحرب الجلوس على طاولة المفاوضات قبل الوصول إلى أهدافهم وقبول شروطهم الموضوعة مسبقا لوقف المعارك.

لا شك أنه ومنذ بدء المواجهات فقد شهدت المعارك والجبهات الأوكرانية المفتوحة بشكل أو بآخر جميع تكتيكات وأساليب القتال المعروفة، وغيرها من قصف وتدمير وعمليات هجوم ودفاع ومعارك تصادمية وجولات من التقدم والانسحاب، وأعمال الكر والفر والاستنزافات. حيث ظهر ذلك جليا خلال الأشهر القليلة الماضية خاصة على الجبهات الجنوبية في محيط مدينة "خيرسون" الساحلية وعلى الجبهات الشمالية الشرقية في إقليم الدونباس ومدينة "باخموت" ومدينة "خاركييف" ومحيطها.

عمليا وفي عملية حسابية عسكرية بسيطة فالواقع الميداني والتسليحي يقول إنه لا مجال للمقارنة مطلقا بين إمكانيات وقدرات الجيش الروسي التسليحية والعددية، وما بين قدرات القوات الأوكرانية ومقدراتها، حيث يأتي التفوق الكبير والواسع فيها دائما وعلى جميع الأصعدة لمصلحة القوات الروسية المهاجمة _ومن هنا _فلابد لنا أن نطرح السؤال التالي..؟ ما هي الأسباب التي حدثت وساعدت بشكل أو بآخر الجيش الأوكراني على الصمود الواضح والمثير للاهتمام أمام جحافل القوات الرَوسية المتفوقة حتى هذا الوقت الذي نحن فيه، ومنع هذه القوات من تحقيق غالبية وأهم أهدافها من العملية حتى الآن؟!.

عمل الولايات المتحدة الأميركية بكل طاقتها لدعم أوكرانيا فى المجال العسكري والاقتصادي للوقوف بحزم أمام القوات الروسية المهاجمة.. 

الملاحظ ومن خلال المتابعة الميدانية وقراءة لتغيير خريطة العمليات ومستجداتها، ومراقبة أحداث ومجريات واستمرارية المعارك التي تدور رحاها ليلا ونهارا، وبالتحليل الموضوعي للمعطيات فإن أهم العوامل والأسباب التي أدت لصمود الجيش الأوكراني نجد أنها تندرج بين طيات وسطور النقاط التالية: 

•  الروح المعنوية العالية للقوات الأوكرانية وحرصها الدائم على التضحيات والقيام بواجباتها، والصمود البطولي في مواقعها والعمل الجاد والهادف على تكبيد الجيش الروسي الخسائر الفادحة بالأرواح والمعدات.
• التفاف الشعب والجيش الأوكراني بكل حزم وعزيمة وإصرار حول قيادته السياسية والعسكرية.
• الإمدادات العسكرية الأميركية والغربية المتنوعة الحديثة المقدمة للقوات الأوكرانية، والتي يأتي على رأسها المسيرات بأنواعها وصواريخ  م/ط ستنجر و م/د جافلاين ومنظومات هايمرز الصاروخية ومدافع هاوتزر 152 مم 777 ومنظومات متنوعة للدفاع الجوي وغيرها من العتاد والأسلحة التي تتمتع جميعها بدقة الإصابة وبقدرات حركية ومناورة نارية ضخمة.
• عمل الولايات المتحدة الأميركية بكل طاقتها لدعم أوكرانيا فى المجال العسكري والاقتصادي للوقوف بحزم أمام القوات الروسية المهاجمة.. كما أن هناك دعما آخر تقوم به واشنطن لأوكرانيا وهو تزويد الجيش الأوكراني بالمعلومات الاستخبارية الكاملة والتفصيلية عن تحركات وتمركزات ونقاط قوة وضعف الجيش الروسي وذلك لسهولة استهدافه وإحباط خططه وإفشال أهدافه.
• تعدد واتساع الجبهات التي فتحها الجيش الروسي في عمليته الخاصة، والتي تقدر عمليا بآلاف الكيلومترات شمالا وجنوبا وشرقا، وهذا ما أدى بدوره إلى تشتيت وتباعد وتفكك خطوطه القتالية، وهذا الأمر أيضا أعطى الفرصة والمبادرة للجيش الأوكراني للقيام بتنفيذ هجماته وكمائنه وإغاراته بأريحية واضحة وتكبيد الجيش الروسي الغازي خسائر جسيمة بالأرواح والمعدات.
• صعوبة التضاريس الأوكرانية (غابات، مستنقعات، مخاضات… إلخ) وطرق الإمداد وتباعدها التي عانت منها القوات الروسية وخاصة مع بدايات العمليات، وذلك نتيجة لتباعد الخطوط القتالية واتساع الجبهات المفتوحة.
• ضعف الروح المعنوية للجيش الروسي ويأتي هذا نتيجة الخسائر الجسيمة والفادحة بالأرواح والمعدات التي تكبدها هذا الجيش في كثير من جبهات ومحاور القتال.
• سوء إدارة المعركة والضعف الواضح في تقدير المواقف القتالية، وخاصة في تقدير قدرات القوات الأوكرانية، والعقم في اتخاذ القرارات الصحيحة وتأخرها، وهذا ما لاحظناه كثيرا من خلال إقدام "بوتين" على عزل وتغيير قادة كثير من الجبهات والعمليات والتي كان قبل أيام آخرها بعد أن تم تعيين رئيس الأركان الروسي "فاليري غراسيموف" قائدا جديدا للأعمال القتالية في أوكرانيا وتعيين قائد القوات البرية والجوية الروسية نوابا له.  

هل باتت القوات الأوكرانية تخوض حربا بالوكالة:

في وقت سابق نشرت صحيفة "بوليتكو" الأميركية مقالا خصصته حول جهود البنتاغون وتوجهاته لزيادة وتيرة الصناعات الدفاعية، وذلك على خلفية نقص المخزونات الاستراتيجية نتيجة النقل المتواصل لكميات كبيرة من الأسلحة والذخائر إلى" كييف"، حيث وصفت الصحيفة الأحداث في أوكرانيا بأنها "حرب وكالة للغرب" ضد موسكو. كما أن وزير الخارجية الروسي "سيرغي لافروف" قد صرح في وقت سابق أيضا بأن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي "متورطان" بشكل مباشر في الصراع في أوكرانيا، "وهذا لا يندرج فقط تحت بند توريد الأسلحة لكييف، ولكن أيضا بتدريب الأفراد على العتاد والأسلحة الممنوعة لهم في المملكة المتحدة وألمانيا وإيطاليا ودول الناتو الأخرى.

من خلال تصريحات الغرب وواشنطن فإنهم لن يسمحوا لبوتين ويمكنوه من تحقيق أهدافه المرسومة نتيجة غزوه لكييف، أو إحراز نصر عسكري سريع فيها

في الواقع فإن هناك ما يجسد حجم الاهتمام الأميركي الهائل لما يرونه ضرورة انتصار أوكرانيا على روسيا، وعليه ومن خلال تصريحات الغرب وواشنطن فإنهم لن يسمحوا لبوتين ويمكنوه من تحقيق أهدافه المرسومة نتيجة غزوه لكييف، أو إحراز نصر عسكري سريع فيها، هذا ووفقا لكل المقاييس يعني المساهمة السلبية في زيادة معاناة الشعب الأوكراني وإطالة لأمد المعارك وربما لسنوات، من خلال الانغماس الواضح لحلف الناتو بشكل غير مباشر في المواجهات وخوضه "حربا بالوكالة" ضد القوات الروسية الغازية، وهذا بحد ذاته ما يظهر جليا على أرض الواقع من خلال الدعم الغربي والأميركي اللامحدود للجيش الأوكراني بكل هذه المليارات، والكم الكبير بالأسلحة والعتاد الحديث المتنوع الاستخدامات التي تعين هذا الجيش ربما على الصمود والثبات ما أمكن، وليس على الانتصار السريع وغير المكلف، مع أخذهم بعين الاعتبار هنا بعدم التضحية بأي جندي يتبع لهم في أي مواجهة مباشرة مع الجيش الروسي على الأراضي الأوكرانية.  

ختاما.. من المؤكد أن حرباً بالوكالة أو غيرها من الحروب في أوكرانيا ليست قراراً صائبا بأي شكل من الأشكال. كما أن تمسك الغرب وواشنطن بالهدف الأسمى وهو العمل الدؤوب على سحق روسيا عسكرياً واقتصادياً وسياسياً ومعنوياً، وهي الدولة النووية البارزة، دليل عملي واضح ربما على سوء تقدير المواقف الدولية بكل مقاييسها، بل وهي الطريق الأقصر الذي يؤدي إلى حدوث حرب ومواجهات مفتوحة ومباشرة مع الممولين والمحفزين لاستمرار الحرب على الأرض الأوكرانية، وربما تكون نهايات ذلك الأمر حرب نووية عالمية كارثية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى.