حرب الصفقات.. إغلاق حاضر جنوب سوريا وفتح مستقبل شمالها

2018.07.09 | 00:07 دمشق

+A
حجم الخط
-A

تكتسب الجغرافية السورية حساسية متعددة الجوانب من العسكرية إلى السياسية فالاقتصاد، وصولاً إلى طبيعة نظام الحكم، وترتفع أسهم كل جانب تناسباً بالظروف المحيطة به، وتبعاً لتلك التطورات، تواجه سوريا دولياً ملفين شائكين، الجنوب أحدهما، وقد تمت صفقته مؤخراً لصالح المحور الإسرائيلي الأمريكي الروسي الأردني الإيراني، وبصورة شكلية للنظام السوري، بعد اتفاق ذلك المحور على هزيمة الشعب السوري في الجنوب بمدنييه قبل عسكر ثورته، مقابل المصالح الاقتصادية واستخدام روسيا مع الأسد لإعادة الأمن والأمان الذي يعيشه الكيان الصهيوني في هضبة الجولان المحتل.

الملف الثاني، الذي لا أعتقد بأن تحديد مستقبله سيطول بعد طيّ حاضر الجنوب، فهو الشمال السوري، الذي اكتسب أهمية تراكمية خلال السنوات السابقة، جعلت منه منفى للمهجرين والثائرين، وورقة ستوضع على طاولة الفرقاء الدوليين المتخاصمين والمتفقين، وآخر الملفات المصيرية بالنسبة للثورة السورية.

الشمال السوري، الذي اكتسب أهمية تراكمية خلال السنوات السابقة، جعلت منه منفى للمهجرين والثائرين، وورقة ستوضع على طاولة الفرقاء الدوليين المتخاصمين والمتفقين

مستقبل شمال سوريا الواسع، سيتضح مع بدأ المشاورات الدولية، وعقد الجلسات الثنائية، فتركيا، الدولة الوحيدة المناصرة للثورة فيه، لم تستطع مسبقاً دخول الأراضي السورية، إلا بعد تفاهمات مع النقيضين الأمريكي والروسي، بسبب دعم كلاً منهما المباشر لجهة مسلحة في سوريا من أكراد وأسد.

أما موسكو، وهو الطرف الأكثر انتشاراً عسكرياً في البلاد، لا ترغب في الفترة الحالية بخسارة تركيا لصالح المعسكر الأوروبي الأمريكي، ولكن سياستها، تميل لتسوية الشمال بالتفاهم مع أنقرة، لا تحدي القرار التركي واجتياح المنطقة، مما يجعل تركيا أمام خيارين اثنين.

أولهما، تفاهم ثنائي تركي أمريكي، سيقود أنقرة للسيطرة الكاملة على إدلب ومساحة واسعة من حلب وصولاً لريف حماة، وبالتالي عودة مواجهتها مع روسيا، وفي حال تطبيق هذا الخيار، ستظهر بوادره من خلال المشاروات السياسية بين الجانبين الأمريكي والتركي، وهذا ما ألمح إليه وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، عندما تحدث عن خارطة الطريق مع واشنطن، للانتقال لمناطق أخرى في الشمال السوري بعد منبج.

الخيار الثاني، تفاهم تركي روسي، على إبقاء الشمال على صورته الحالية، إلا أن هذا الخيار ضعيف، فروسيا ستعمل على استعادة الجيوب العسكرية من المعارضة في ريف اللاذقية وحتى جنوب حلب، مما يجعل فرضيات بقاء المنطقة التي ينتشر فيها الجيش التركي على ما هي عليه أمراً غير وارد، خاصة مع إنهاء ملف الجنوب رغم الحساسية الكبيرة التي يتمتع بها.

السيناريو الأخطر في الشمال، يتجاوز الخيارات التركية، وهو غير مستبعد، حال حصول تفاهم سري، روسي أمريكي بقرار إسرائيلي على دفع قوات النظام السوري والميليشيات الإيرانية بغطاء جوي روسي لاجتياح المناطق الخاضعة لاتفاق خفض التصعيد المبرم وفق أستانا في الشمال، والتي ينتشر بمحيطها الجيش التركي.

تطبيق سيناريو الجنوب في الشمال، يعني أن المحور الأمريكي الإسرائيلي الروسي، قرر إدخال تركيا عبر بوابة السوريين

علماً أن ذات التفاهم، عاشه الجنوب السوري، وأكده رفع الدعم الأمريكي عن المعارضة المسلحة بلحظات، والسماح للقوات الروسية والنظام مع الإيرانيين، بضوء أخضر إسرائيلي باجتياح المنطقة بداية، ودفع الأردن للوساطة بين روسيا والجيش الحر، بهدف إجبار الأخير على الاستسلام، كمرحلة أخيرة.

تطبيق سيناريو الجنوب في الشمال، يعني أن المحور الأمريكي الإسرائيلي الروسي، قرر إدخال تركيا عبر بوابة السوريين، بحرب استنزاف طويلة الأمد، لا تحمد عقباها لا سورياً ولا تركياً، وقد لا تبقى الحدود السورية مسرحها الوحيد.

في الشمال، هنالك العديد من الأوراق المهمة، القابلة للضغط أو التفاوض في آن واحد من قبل الدول الفاعلة، ومنها الملف الكردي، فهو منغص للأمن التركي، وورقة ضغط أمريكية في ذات الوقت قابلة للتفاوض، وفق المصالح والغايات.

أنقرة، بدروها، أولت ملف الوحدات الكردية، أهمية كبيرة، تحسباً منه لمآلاته المستقبلية، حال تثبيت قواعده، وتوسع انتشاره العسكري، مما يهدد مستقبل الجنوب التركي "المناطق الكردية"، ومن هنا اعتمدت الرؤية التركية على اجتثاث الخطر قبل تحوله لواقع مرعب.

وكذلك هيئة تحرير الشام، بمختلف مسمياتها السابقة، فهي عامل جالب للحرب في الشمال، واحتمالية العمل العسكري، أمراً وارداً، من كافة الأطراف، فتحرير الشام، جهة مصنفة على قوائم الإرهاب الدولية، وبالتالي فمجاراتها سياسياً لا تحمد عواقبه، وتركها سيشرع للروس والإيرانيين اللعب على هذه الورقة لانتزاع مساحات في أرياف حلب واللاذقية، ناهيكم عن إدلب، المعقل الرئيس للهيئة.

تركيا، تملك عدة خيارات لرسم مستقبل الشمال السوري، وفق رؤيتها، وأهم الأوراق التي تمتلكها، جيش ضخم من الثوار، على امتداد ثلاثة محافظات سورية، قادر على تغيير المعادلة العسكرية خلال ساعات، حال حدوث أي تضييق دولي على القرار التركي فيما يخص مصير الشمال، وحاضنة شعبية سورية لا يستهان بقوتها.

إلا أن أكثر ما قد يواجه السوريين والأتراك شمال سوريا، هو الرغبة الروسية الكبيرة، بفرض وصايتها الكاملة بشكل عسكري أو عبر التفاهمات على كامل الجغرافية، مما يجعل عامل الوقت أكثر الأسلحة المهمة لكلا الجانبين في المرحلة الحالية، ومن يسبق في بدأ الخطوة الأولى، سيجعل الأطراف الآخر ضمن خانة ردة الفعل لا مالكه.

وهنا لا يجب أن ننسى، أن لتركيا، أعداء عرب، خاصة في الملف السوري، وقد نرى ذلك جلياً، إذا ما أقدمت روسيا والنظام السوري مع إيران على اجتياح مناطق تخضع لاتفاق أستانا في الشمال، فالأنظمة العربية التي تحمل شعار محاربة إيران، على وسائلها الإعلامية، ستشد عضد الروس والإيرانيين ضد الجيش التركي وكذلك الجيش الحر، انتقاماً للإرهاصات الصبيانية التي افتعلها العرب بين بعضهم الخليج العربي قبل عام ونيف.

وهذا ما استدركته تركيا قبل اتضاح الصورة الكلية للمشهد السوري، من خلال عمليتيها العسكريتين في الشمال، وخلق مساحات جغرافية تعطيها قدرة على المناورة وفرض رؤيتها بما يخدم أمنها القومي على رأس الأولويات، واحتضانها لأعداد كبيرة من الثوار المسلحين، الحدث الذي يجعل جميع الأطراف مضطرةً لمجاراة أنقرة، والتشارك معها، وعدم التغاضي عن مطالبها، خاصة حول الملفات الحساسة التي تؤرق داخلها.

في حين أن روسيا، عرابة إسرائيل في الشرق الأوسط، تعمل وفق الأجندات الموضوعة لها، خاصة الملف الأكثر خطورة، والمتمحور حول بعثرة السوريين العرب "السنة"، لصالح المشروع المضاد، وهو ترسيخ الديكتاتورية بالقوة، وقتل الشعوب.

طبعاً، هنا لا يمكننا الحديث عن تأثير للمعارضة السورية بشقيها العسكري والسياسي بما يخص الشمال السوري، فهي حلقة ضعيفة في دائرة صراع دولية، فقدت فيها زمام المبادرة والتأثير على المشهد، خاصة مع انحسار الجغرافية التي تسيطر عليها.

بالنسبة للنظام، فهو لم يعد موجودا إلا شكلياً، بعد ارتدائه عمامة العمالة المركزية لصالح القوى التي تديره، والتي استغلت الخيانة التي يقودها، لاحتلال سوريا وبناء قواعد عسكرية وحدود نفوذ، تهدد تماسك التراب السوري، إلى مئة عام قادم.