حرب السرديّات التاريخية السورية

2020.04.14 | 00:05 دمشق

images.jpg
+A
حجم الخط
-A

تستعر صفحات التواصل الاجتماعي بحرب سوريّة ضروس، أشدّ تطرفاً وحمأةً من الحرب الواقعية، حول السرديات التاريخيّة الهُوياتيّة. يخوّض فيها -غالباً- متطرّفون مغلَقو الأعين والقلوب، بصورةٍ تجعل الناسَ تخشى الاقتراب منها ولو بتعليق، وتدفع العقلاء إلى النفور من غُلوائها.

سبقَ للمفكّر المصريّ الراحل فرج فودة أن تحدّث في كتابه "الحقيقة الغائبة"؛ عن حقائق غيّبتها الأنظمة الحاكمة، وفقهاءُ السلاطين، وجماعاتُ الإسلام السياسي الحديثة عن الشعوب. لماذا؟ بغية تجهيل الجمهور كعادة أنظمة الاستبداد ودأبها، وبغية الاستثمار في الروايات التاريخية ذات الصبغة الدينية، واستخدامها كأداة لتحشيد الأنصار وتحقيق المكاسب السياسيّة الدُنيوية. وأهمّ ما تناوله فودة في كتابه المذكور؛ هو الصورةُ المثاليّة الناصعة البياض التي يقدّمها رجالُ الدين وجماعاتُ الإسلام السياسي لعصور الخلافات الإسلامية. في حين إنّ المصادر التاريخية الـمُعتَمَدة لدى الإسلاميّين أنفسهم؛ تقدّم حقائق مختلفة ومتناقضة عن تلك العصور، حقائق تمَّ تغييبُها دوماً عن الناس، لصالح التحالُف النفعيّ بين السلطتين السياسيّة والدينية.

وبعد تاريخ طويل من الإضاءة على النقاط الإيجابية في التاريخ العربي الإسلامي، والتعتيم على النقاط السلبية فيه؛ جاءت البعثيّة والناصريّة لتزيدا الطينَ بلّة. إذ جاءنا البعثيُّون بنظرية سياسية مُستلهَمة من نازية هتلر، تؤمن بتفوُّق العنصر العربي على غيره من البشر، وتقدّمه كصانعٍ شِبْه أوحدَ للحضارة منذ فجرها حتى غروبها. هذا ما تعلّمناه في المدارس والجامعات، وما قُدّم إلينا عبرَ الإعلام خلال العقود الماضية، وهذا ما قدّمتْه الدراما في مسلسلاتها التاريخية والشاميّة المبدعة في صناعة صورة عظيمة للذات، وصورة شنيعة للآخَر. لقد أنكرَ نظامُ البعث التنوّع الإثني والثقافي في سوريا، وتجاهله كأنه غيرُ موجود. ثم راح يزعق بشعارات الوحدة القومية والثقافية من المحيط إلى الخليج، بينما هو غير قادر على تحقيق هوية وطنيّة جامعة على مستوى البلد الواحد، بل هو غيرُ قادر على تحقيق رابط وطني بين المدينة وريفها.

وكنتيجةٍ لنظام شمولي متغوّل، وتعليم مؤدلج، وإعلام كاذب... نتجَ لدينا اليوم تيّاران رئيسان يتصارعان حول السرديّات التاريخية السورية، يدّعي كلٌّ منهما امتلاك الحقيقة، ويريد بالتالي أنْ يُرتّب نتائج سياسيّة على سرديّته التاريخية تلك. التيّار الأول يمثّله الدواعش الذين يريدون إقامة "خلافة إسلامية"، نتجتْ فكرتُها من تلاقُح طروحات الإسلام السياسي مع طروحات الأحزاب القومية، وإنجابهما معاً لتاريخ عربيّ إسلامي مُشرقٍ زاهٍ مثاليّ إلى حدّ الكمال. أصحابُ هذا التيّار يُنكرون على الآخرين حقوق المواطنة المتساوية بين الجميع، ويَخصُّونهم بحقوق "أهل الذمة" فقط، وهم -بالطبع- سببٌ من أسباب تطرّف التيار الثاني. التيار الثاني يمثّله العنصريّون المعادُون لكل ما هو عربيّ وكل ما هو مسلم، فيحاولون -دوماً- الربط بين الإسلام والإرهاب بثقةٍ لا يجرؤ عليها عُتاةُ اليمين المتطرّف في الغرب، ويحاولون كذلك الربطَ ما بين العرب والبداوة بصورة مناقضة للحقائق

رغم التعارُض الظاهري بين الطرفين؛ فإنّ كُلّاً منهما يقدّس تاريخاً معيناً بممالكه وملوكه وأبطاله، كاستمرارٍ لنزعة عبادة الأجداد عند البشر القدامى

التاريخية والآثارية. النتائج السياسيّة التي يسعى التيارُ الأول إلى تحقيقها؛ هي فرضُ أيديولوجيا إسلاميّة متطرّفة على السوريين دون اعتبارٍ لآرائهم ومواقفهم وانتماءاتهم وثقافاتهم. والنتائج السياسيّة التي يسعى التيار الثاني إلى تحقيقها؛ هي تبريرُ عمليات الإبادة والتهجير التي جرتْ خلال السنوات الأخيرة، بكلّ ما احتوتْه من انتقامٍ عنصريّ وطائفيّ وطبقيّ مُشبَع بالأحقاد التاريخية.

وبالرغم من التعارُض الظاهري بين الطرفين؛ فإنّ كُلّاً منهما يقدّس تاريخاً معيناً بممالكه وملوكه وأبطاله، كاستمرارٍ لنزعة عبادة الأجداد عند البشر القدامى. وكلٌّ منهما يصوّر تاريخه المقدّس كأسطورة من النقاء والكمال، عاشَ فيها البشرُ بسلام وهناء. ومن خلال هذه الرؤية الـمُنحازة؛ يتمُّ تضخيم ظواهر عادية وسخيفة موجودة لدى الشعوب جميعها، في مقابل تبخيس شُعوبٍ أُخرى بكامل حضارتها وثقافتها.

وأميلُ إلى الاعتقاد أنّ معظم مَن يبحثون في تاريخ سوريا القديم، أو يتبجّحون به، أو ينفخون ما فيه؛ لا يفعلون ذلك لغاياتٍ بحثية أو لشغفهم بالعلم والمعرفة، إذ تمتلئ طروحاتهم بالسطحية والشعبويّة. وأرى أنهم ينطلقون -في الأساس- من منطلَقات عنصرية، تؤمن بوجود خصائص جوهرية ثابتة لكل جماعة إثنيّة أو دينية، ومن ثمّ الإيمان بتفوُّق بعض الجماعات على بعضها الآخر بحُكم امتياز "النُّوع". وأرى أنهم يستخدمون خطاباً عاطفيّاً موجّهاً إلى الغرائز لا العقول، كغيرهم من العنصريين والمتطرّفين، لكي يُوهموا السُذَّجَ بوجود أعراقٍ وسلالاتٍ أرقى من بعضها بعضاً، ولكي يُخدّروهم بأفيون إلقاء اللُّوم والمسؤولية على جماعةٍ غريبة جاءتْ من مكان بعيد، وخرّبتْ سوريا الحلوة التي كانت "جنّة تجري من تحتها الأنهار".

إنّ هذا الإعلاءَ الوهمي للذات -الذي يكثُر في أزمنة الانحطاط والتخلُّف- لا يُنتج سوى الكراهية، الكراهية التي لا تحتاج غيرَ الشرارة الأولى لكي تتحوّل إلى مجزرة. وإن هذه العنصرية السورية هي نوع من التفسير الخاطئ للتاريخ، إذ هي تردُّ مصائر البشر إلى أصولهم، وهي هنا الأصول العرقية أو الدينية أو الاثنين معاً.  ومن الخطورة بمكان أنّ يمزج العابثون ما بين تاريخٍ متوهَّم وملفَّق ومنحاز، والواقع السياسي بمختلف أزماته؛ فهذه هي الخلطة المناسبة لتوليد النازية وتبرير التطهير العرقي والإبادة.

 وبغضّ النظر عن السرديات التاريخية كلها، فإنّ الشيء المهمّ والذي يجب الاتفاق عليه والتمسّك به؛ هو ألا يكون للسرديات التاريخية أيُّ آثار سياسية. وكمثال على ذلك؛ فإنّ الجدال حول ما هو الشعب الأقدم في سوريا؛ لا ينبغي أن يعني شيئاً على الصعيد القانوني والسياسي، وذلك لأنّ وجود جماعة بشرية قبل غيرها في إقليم الدولة؛ لا يعني أنّ لها حقوقاً أكثرَ أو حقوقاً مختلفة عن غيرها، إذ تفترض العدالة والمواطنة تساوي الحقوق بين المواطنين.

وكمثال آخر؛ يجهدُ فريقٌ من السُّفهاء المتعصّبين في إنكار وجود العرب في سوريا، إلا بعد الإسلام، وهي كمحاولة مَن يريد أن يحجب الشمس بغربال. كما يجهدون في الربط بين العرب والعبرانيين، وبين الإسلام واليهودية، وكل ذلك لغاياتٍ سياسية تخدم نظامهم في أزمته الوجودية والأخلاقية والأيديولوجية التي انتهتْ به إلى بيع البلاد لتشكيلة من الاحتلالات الأجنبية. لكنْ حتى لو افترضنا صحّة دعاواهم المتهافتة حول العرب والمسلمين، فإنّ هذا لا يُبرّر للنظام أن يُؤذي أو يقتل أو يُهجّر أيّ مواطن كان، عربياً أو غيرَ عربي، مسلماً أو غير مسلم. ولا يعفيه من مسؤوليته القانونية عن الجرائم المرتكبة في سنوات الحرب.

إن هذا الحال البائس من الجدالات التاريخية ذات الـمُنطلَقات العنصرية والطائفية؛ ما هو إلا مظهر من مظاهر خَلَل العقل الجمعي وخَبَله، ومن دلائل القصُور المعرفي والخُلُقي. وذلك لأنّ المطالبة بـ "سوريا ذات لون واحد"، سَمِّها ما شئت، يعني إبادة الألوان الأُخرى أو تهجيرها أو أكل حقوقها.