حرب الجروف القارية شرق المتوسط.. إلى أين؟

2020.07.08 | 00:02 دمشق

shrq_almtwst.jpg
+A
حجم الخط
-A

تشهد منطقة شرق البحر المتوسط توترات سياسية وقانونية بين الدول المشاطئة له منذ فترة طويلة بسبب الخلافات حول ترسيم الحدود البحرية، وتزايدت حدة هذه التوترات خلال السنوات الأخيرة بسبب الاكتشافات المتزايدة لحقول النفط والغاز في حوض المتوسط، إضافة للخلافات التاريخية بين هذه الدول خاصة تركيا واليونان، والمشكلة القبرصية، والتنافس على النفوذ في هذه المنطقة بين اللاعبين الإقليميين والدوليين، وزاد من طين هذه التوترات بلة الوضع المتأزم في ليبيا وتسابق الدول إلى إيجاد موطئ قدم لها داخل ليبيا وعلى سواحلها.

في كانون الثاني/يناير 2019، أنشأت حكومات مصر واليونان وإيطاليا وقبرص وإسرائيل ما سُمّي "منتدى غاز شرق المتوسط" بهدف إنشاء سوق غاز إقليمي وتسهيل عبور الغاز الطبيعي إلى أوروبا وقد تم استبعاد تركيا من هذه الصفقة. كما سبق أن توصلت قبرص إلى اتفاقيات لترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل ومصر، دون أن تأخذ شكاوى تركيا وجمهورية شمال قبرص بعين الاعتبار. ورداً على ذلك، قررت تركيا منح تراخيص وإطلاق عمليات تنقيب بحرية لسفن التنقيب التركية الشهيرة "فاتح" و"يافوز "منذ منتصف عام 2019، وألحقت ذلك بتوقيع مذكرتي تفاهم مع حكومة الوفاق الليبية المعترف بها دولياً، إحداهما حول التعاون العسكري والأمني، والأخرى بشأن تحديد مجالات الصلاحية البحرية بين البلدين، وتتيح المذكرة الأخيرة لأنقرة التنقيب عن البترول والغاز في قطاعات جديدة بالقرب من السواحل الليبية، والفصل بين الدول التي أنشأت منتدى الغاز وعرقلة هذا المشروع. هذه التطورات أثارت عاصفة من ردود الفعل الإقليمية والدولية ودفعت اليونان مؤخراً إلى توقيع اتفاقية لترسيم الحدود البحرية مع إيطاليا، والاستعداد لاستئناف المفاوضات مع مصر لتوقيع اتفاقية مماثلة.

من جانبها، تقول تركيا إن جميع أنشطتها شرق المتوسط خاصة عمليات التنقيب تندرج ضمن إطار القانون الدولي، وتتم في حدود الجرف القاري للجمهورية التركية وفقاً لقانون البحار والاتفاقيات المعقودة بين تركيا وجمهورية شمال قبرص لعام 2011، ومذكرة التفاهم مع حكومة الوفاق، وأن مزاعم اليونان وبعض الدول الأخرى حول عدم قانونية هذه الأنشطة غير صحيحة. وتؤكد في الوقت ذاته على استعدادها للتفاهم مع بقية الدول بما فيها اليونان باستثناء جمهورية قبرص التي لا تعترف بها تركيا بسبب الخلافات التاريخية بين شطري جزيرة قبرص.

النزاعات بين دول حوض المتوسط شديدة التعقيد ومتعددة الأوجه والأطراف، وترسيم الحدود البحرية هو أحد أبرز أوجهها ومنه تنطلق بقية الخلافات

على أية حال، النزاعات بين دول حوض المتوسط شديدة التعقيد ومتعددة الأوجه والأطراف، وترسيم الحدود البحرية هو أحد أبرز أوجهها ومنه تنطلق بقية الخلافات، فطالما استمر وضع جزيرة قبرص بعيداً عن الحل فلا يمكن تصور وجود حدود بحرية مستقرة ومتعارف عليها بسبب الوضع الجغرافي للجزيرة وتنازع تركيا وجمهورية شمال قبرص من جهة، واليونان وجمهورية قبرص من جهة أخرى على أحقية السيطرة على سواحل الجزيرة وجروفها القارية.
والسؤال الذي يطرح نفسه، لماذا لا تتفق دول حوض المتوسط على ترسيم حدودها البحرية واستغلال الثروات داخل جروفها القارية بما ينعكس عليها وعلى شعوبها بالخير والرفاه؟ أم أن هناك صعوبات فنية وقانونية في تحديد الجرف القاري لكل دولة؟ لذلك سنحاول بشكل موجز التعريف بالجرف القاري ومعايير تحديده، وبيان آليات تسوية المنازعات حول الخلافات الناشئة عن ذلك.

تعريف الجرف القاري 
الجرف القاري ظاهرة جيولوجية وجغرافية لوحظت منذ القدم، وتطورت بحسب مصالح الدول وصولاً للمفهوم الحالي. وتحتوي منطقة الجرف القاري على صخور رسوبية، وهي عادةً منطقة غنية بالغاز الطبيعي والنفط إضافة إلى الثروة السمكية. وللدول الساحلية حقوق سيادية خالصة على جرفها القاري لأغراض الاستكشاف واستغلال الموارد الطبيعية غير الحية مثل النفط والغاز والمعادن وغيرها.

وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية أول من تحدث عن الجرف القاري هو الرئيس الأميركي آنذاك "هاري ترومان" في إعلانه الشهير، الذي ذكر فيه "أن من حق الولايات المتحدة استغلال الموارد الطبيعية الموجودة في قاع البحر وما تحت القاع تحت مياه أعالي البحار بمحاذاة سواحل البلاد". وهو ما دفع بكثير من الدول إلى فرض سلطاتها على الجرف القاري كمنطقة تابعة لها، ما جعل المؤسسات الدولية المعنية تسارع لبحث المسألة وإيجاد مخرج لها. لذلك حرصت الاتفاقيات والمؤتمرات الدولية حول البحار على وضع معايير لتعيين حدود الجرف القاري وفق مفهوم قانوني يراعي مصالح جميع الدول. وقد عرفت المادة الأولى من اتفاقية جنيف لعام 1958، الجرف القاري، بأنه "مناطق قاع البحر وما تحته من طبقات متصلة بالشاطئ تمتد خارج البحر الإقليمي إلى عمق مئتي متر أو إلى ما يتعدى هذا الحد إلى حيث يسمح عمق المياه باستغلال الموارد الطبيعية لهذه المنطقة". واعتمدت هذه الاتفاقية في تحديد الجرف القاري على معيارين هما العمق ومعيار القابلية للاستغلال.

وخلال انعقاد المؤتمر الثالث لقانون البحار في "مونتيغو باي" في جامايكا عام 1982 طالبت كثير من الدول بضرورة مراجعة المعيارين السابقين، حيث أثبتت التجارب عدم دقتهما وطالبت بالبحث عن بديل يكون أكثر دقة لتحديد بداية ونهاية الجرف القاري، وانتهت المناقشات إلى اعتماد معيار جديد هو معيار "المسافة". لذلك ربطت اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982 – التي تعتبر دستور المحيطات- بين المفهوم القانوني للجرف القاري والمفهوم الجغرافي. 

معايير تحديد الجرف القاري: 
وضعت الاتفاقيات الدولية عدة معايير لتحديد الجرف القاري، وقد أخذت اتفاقية 1958 بمعيار العمق والقدرة على الاستغلال، في حين أخذت اتفاقية 1982 بالمعيار الجيومرفولوجي "الامتداد الطبيعي"، أو المعيار الجيولوجي، أو معيار المسافة. ووفقاً للمعيار المورفولوجي فإن الجرف القاري هو ذلك الجزء من الأراضي التابعة لإقليم الدولة الساحلية الذي يمتد نحو البحر لكن المياه تغمره بسبب انخفاضه عن مستواها، وهو ما نصت عليه المادة 76 من اتفاقية 1982. ووفقاً لمعيار المسافة فإن الجرف القاري للدولة يصل إلى 200 ميل بحري من خطوط الأساس التي يقاس منها عرض البحر الإقليمي في حال كانت الحافة القارية للدولة لا تصل إلى تلك المسافة، أما إذا كانت الحافة القارية للدولة تمتد إلى أكثر من 200 ميل بحري فهنا قد يصل الجرف القاري إلى 350 ميلاً بحرياً كحد أقصى، وبهذا يختلف الجرف القاري عن المنطقة الاقتصادية الخالصة في أن الأخيرة لا تمتد إلى أكثر من 200 ميل بحري في جميع الأحوال. 

ترسيم الحدود البحرية بين الدول ذوات السواحل المتقابلة أو المتجاورة كما هي الحال عليه شرق البحر المتوسط، غالباً ما يكون صعباً بسبب تشابك الجروف القارية للدول المختلفة

ترسيم الحدود البحرية
الواقع، أن ترسيم الحدود البحرية بين الدول ذوات السواحل المتقابلة أو المتجاورة كما هي الحال عليه شرق البحر المتوسط، غالباً ما يكون صعباً بسبب تشابك الجروف القارية للدول المختلفة. وقد اعتمدت اتفاقية 1958 على معيار خط الوسط لتحديد الجرف القاري بالنسبة للدول المتقابلة ومعيار تساوي البعد بالنسبة للدول المتجاورة، إلا أن هذه المعايير غير إلزامية ويجوز للدول الاتفاق على ترسيم حدودها البحرية بالاتفاق فيما بينها، استناداً إلى مبدأ سيادة الدول.

في حين ذكرت المادة 83 من اتفاقية 1982 قواعد تحديد الحد الخارجي للجرف القاري بين الدول المتقابلة والمتجاورة، إذ نصت على أن (يتم تعيين حدود الجرف القاري بين الدول ذات السواحل المتقابلة أو المتلاصقة عن طريق الاتفاق على أساس القانون الدولي). أي أن الاتفاق بين الدول هو القاعدة الوحيدة في تعيين الحدود البحرية ولم تأخذ بمعياري خط الوسط أو تساوي البعد التي وردت في اتفاقية 1958. 

تسوية المنازعات 
في حال تعذر التوصل إلى اتفاق لترسيم الحدود البحرية خلال فترة زمنية معقولة تلجأ الدول المعنية إلى الإجراءات المنصوص عليها في الجزء (15) من اتفاقية 1982 الخاص بتسوية المنازعات بالطرق السلمية وفقاً لميثاق الأمم المتحدة (المادة 2 الفقرة 3، والمادة 33).

كما أجازت المادة 284 لأي دولة تكون طرفاً في نزاع يتعلق بتفسير هذه الاتفاقية أو تطبيقها أن تدعو الطرف الآخر أو الأطراف الأخرى إلى إخضاع النزاع للتوفيق. كما حددت المادة 287 آليات أخرى لتسوية المنازعات منها اللجوء إلى المحكمة الدولية لقانون البحار في هامبرج، أو محكمة العدل الدولية في لاهاي، أو اللجوء إلى هيئة تحكيم، تتألف من خمسة محكمين. إلى جانب ذلك توجد آلية أخرى هي اللجوء إلى هيئة تحكيم خاصة يتم تشكيلها للفصل في فئة محددة من المنازعات مثل تلك الخاصة بمصائد الأسماك وحماية البيئة والملاحة.... ووفقاً لحكم المادة ٢٨٧ (ف 3)، فإن التحكيم هو الأصل الذي يتم الرجوع إليه في حالة ما إذا امتنعت الدولة العضو عن الإفصاح صراحة عن توجهها لتفضيل إحدى آليات تسوية المنازعات المنصوص عليها أعلاه.

بالإضافة إلى ذلك، يمكن اللجوء إلى لجنة حدود الجرف القاري التابعة للأمم المتحدة التي يمكنها أن تقدم المشورة الفنية للدول في تحديد جرفها القاري، وعادة لا يجري التنقيب في هذه المنطقة إلا بعد أن تتلقى السلطة الدولية لقاع البحار تعهداً كتابيا بأن المنقب سيمتثل لهذه الاتفاقية وعليه أن يخبر السلطة بالقطاعات التي سيجري فيها التنقيب، وهو ما قامت به تركيا مؤخراً إذ أبلغت الأمم المتحدة بحدودها البحرية الجديدة بعد مذكرة التفاهم بينها وبين حكومة الوفاق، وإيداع نسخة من هذه المذكرة لدى الأمانة العامة للأمم المتحدة، كما طلبت الإذن بالتنقيب في عدد من القطاعات الواقعة في جرفها القاري.

الخلاصة 
إذا كانت قواعد القانون الدولي للبحار قد وضعت معايير واضحة لتحديد الجروف القارية للدول المتقابلة أو المتجاورة كما هي الحال في حوض البحر المتوسط، ووضعت آليات لتسوية الخلافات وعلى رأسها اللجوء إلى التحكيم الدولي أو المحاكم التي أشارت إليها اتفاقية 1982، فلماذا لا تلجأ كل من اليونان ومصر وإيطاليا وغيرها التي تعترض على الأنشطة التركية شرق المتوسط وعلى ترسيم الحدود بين تركيا وليبيا إلى إحدى هذه الآليات لتسوية الخلاف؟ وبالتالي الاتفاق على توزيع الموارد في شرق البحر المتوسط وفقاً لمبادئ القانون الدولي، بدلاً من التصعيد والتصريحات الجوفاء وإدارة حروب بالوكالة في منطقة تعاني أصلاً من توترات سياسية وأمنية منذ سنوات! 

لكن، ما يثير الاستغراب والحيرة هو أن مذكرة التفاهم التركية- الليبية بحسب -خبراء متخصصين- تصب في مصلحة مصر وتحافظ على مصالحها الاقتصادية شرق المتوسط، لكن الموقف الرسمي المصري يقف ضد هذه الاتفاقية بسبب التوتر السياسي بين البلدين منذ عام 2013 وإرضاء لبعض حلفائه الذين يرون في أي دور لتركيا في المنطقة تهديد مباشر لمصالحهم استناداً إلى مبدأ المعادلة الصفرية وهو ما ينذر باستمرار التوترات في شرق المتوسط إلى أمد طويل ويعرض أمنه للخطر خاصة مع لجوء بعض الأطراف إلى القوة للتأثير في التوازنات بين دوله.