حرب الإخوة في سوريا

2021.12.20 | 05:13 دمشق

17345794_401.jpg
+A
حجم الخط
-A

كان الشابان الداعشيان يتبادلان الضحكات بجوار صاروخ وهما يمسحانه ويتوعدان «رأس الفتنة وشيخ الكفر والضلال، إلى المرتد الذي يسمّي نفسه الشيخ محمد: اعلم أن هذا الصاروخ نجهزه لك ليسقط في منتصف رأسك». بالنظر إلى سلوك داعش بدا مقطع الفيديو عادياً، لولا معلومة إضافية لافتة تفيد أن الشيخ محمد المذكور هو والد الشابين اللذين كانا قد انتسبا إلى التنظيم خلافاً لرغبة أبيهما القيادي والشرعي في كتيبة تابعة للواء التوحيد في قريته رتيان شمال حلب.

يتابع ماجد عبد النور، الإعلامي الثوري، رواية القصة في كتابه الصادر قبل أشهر بعنوان «أحلام وآلام: مذكراتي في الثورة السورية». فيقول إن أياماً قليلة لم تمض على إرسال المقطع حتى ورد خبر مصرع أحد الولدين، فتوضأ الأب وسجد شكراً لله، داعياً أن يعجّل التحاق الثاني به، وهو ما حصل بعد أقل من شهرين.

ليست هذه الفاجعة الوحيدة التي يرويها عبد النور في فصل اختار له عنواناً ذا دلالة هو «حرب الأرحام». ورصد فيه حكاية القرية مع تنظيم داعش، وهي حكاية تكررت بشكل مشابه في كثير من حواضن الثورة. كانت البداية في كنف عبد الله، ابن عم المؤلف، والذي اتخذ، مع مجموعة من رفاقه الإسلاميين المتشددين، من مزرعة مهجورة على أطراف القرية مقراً لهم، بالتوازي مع تشكيل كتائب الجيش الحر من العسكريين المنشقين والأهالي المتطوعين. حاول قادة الجيش الحر والوجهاء إغلاق المقر وطردهم مرات عديدة، لكن الانشغال بقتال قوات النظام عن فتح أي معركة داخلية أزاح الأنظار عنهم. كبرت المجموعة مع الأيام وقويت شوكة التنظيم تدريجياً فكشّر عن أنيابه وكشف عما كان يخفيه من تكفير المجتمع وشعر بنشوة القوة وزادت غطرسته وتمادى في الاعتداء على فصائل الجيش الحر واغتيال الناشطين. حاول الأهالي سحب أبنائهم من صفوف التنظيم لكن آلته في غسيل الدماغ كانت أقوى. وأخذت الدلائل تتراكم على أن المعركة قادمة لا محالة، فقد اكتملت مقدمات «الحرب الأهلية». وهو المصطلح الذي يتجنب الكاتب استخدامه إلا في هذا المقام.

دخل مقاتلو التنظيم الشرسون القرية، مثيرين الهلع وهم يصيحون بشعارهم الشهير «باقية»، فأعملوا فيها الذبح والتنكيل، وصفّوا عشرات المدنيين ومقاتلي الجيش الحر بأشنع الصور

ففي مطلع 2014، في أثناء اشتعال المعارك بين الجيش الحر وداعش في ريف حلب الشمالي، كانت محاولات التنظيم يومية للتسلل بهدف السيطرة على رتيان التي تقع على عقدة طرق رئيسية. وفي منتصف شباط جهّز أعداداً ضخمة من الانغماسيين والانتحاريين، وافتتح معركته مع المقاتلين المحليين بسيارة مفخخة مزلزلة كما هي عادته. واعتمد في رأس حربته على جنوده من أهل القرية لأنهم يعرفون بيوتها وشوارعها وكل خفاياها. فكانت لديه معلومات كاملة عن نقاط المرابطين وأماكن تمركزهم.

دخل مقاتلو التنظيم الشرسون القرية، مثيرين الهلع وهم يصيحون بشعارهم الشهير «باقية»، فأعملوا فيها الذبح والتنكيل، وصفّوا عشرات المدنيين ومقاتلي الجيش الحر بأشنع الصور. فأينما تحركت رأيت الرؤوس المقطعة والأجساد المهشمة. والفاجعة أن من قتلهم هو أخوهم أو ابن عمهم، جارهم أو ابن خالهم، هو أحد أصدقاء طفولتهم. فكان الأخ يثأر لأخيه من أخيه، وابن الأخت لخاله من عمه أو ابن خالته، في معركة كل من فيها من الأرحام، والجميع خاسر. فعندما اتفق الطرفان على تبادل الأسرى، بعد مفاوضات عسيرة، وقف الخصمان على ساتر ترابي وبدأا التفاوض: أعطني أخي وخذ عمي، أعطيك ابن عمك تعطني خالي، في مشهد ملهاة دامٍ. وحتى بعد أن طوت طائرات التحالف صفحة التنظيم بدأت رحلة معاناة جديدة للأهالي في البحث عن بناتهن اللواتي كن زوجات لأولئك المارقين، واستعادتهن من مخيمات شبيهة بالسجون، مع أحفاد أقرب إلى أن يكونوا غرباء. فيما ظلت الكثيرات مجهولات المصير.

من بين فصول الكتاب، التي يستعرض فيها المؤلف عشر سنوات من عمر الثورة السورية، يعترف أن هذا «أقسى ما عشناه طيلة حياتنا». وأن كوابيس الرعب ما تزال تراوده مذكرة إياه بتلك الأحداث، أيام «حرب الأرحام التي تركت في نفوسنا جرحاً عميقاً لا يندمل، وأشعلت في كل بيت نار ثأر لا تنطفئ، وخلّدت أشنع المواقف التي يتعرض لها البشر».

منذ 2011 ضرب الشقاق عدداً كبيراً من العائلات نتيجة المواقف المتباينة من الثورة. وعندما ظهرت بوادر تحولها إلى صراع مسلّح بدأ خطاب «حرب الإخوة» بالظهور. بدءاً بالتساؤل عن عنصر الجيش؛ أليس «خيّي وخيّك»، وصولاً إلى أعمال درامية وغنائية فضّلت عدم اتخاذ موقف حازم مما يجري، سابحة في هوام خطاب وطني ثقافوي وغير مكلف، بإدانة الحرب بين أبناء «الجسد الواحد». غير أن الشرخ الطائفي الذي أصبح أكثر معالم الصراع بروزاً، ولا سيما بعد الانشقاقات والتهرب من الخدمة العسكرية من جهة، والمسارعة إليها وإلى قواتها الرديفة من جهة أخرى؛ ترك ظلالاً عميقة من الشك على هذه الأخوّة التي بدا أنها مستندة فقط إلى الاشتراك في سجل مدني عام واحد.

كما أن الاحتراب العنيف الذي خاضه الشقيقان في السلفية الجهادية، داعش والنصرة، وعلى الرغم من تعريفه بأنه صراع «إخوة المنهج»، لم يشرخ البيوت والمجتمعات الأهلية غالباً، لأن الانقسام توضّع جزئياً على ثنائيات: مهاجرين/ محليين؛ عراقيين/ سوريين؛ وبين كتل بشرية متمايزة نسبياً على العموم.

يعرف أبناء الثورة أن أشد ما عانوه من اقتلاع القلب كان مع داعش التي اجتذبت إخوة لهم وأقارب ورفاق درب، حرفياً لا مجازاً

وحتى في حال الاقتتال الداخلي بين فصائل تُحسب عموماً على الجيش الحر كان للتمثيلات المناطقية والعشائرية والأهلية دورها في رسم حدود أصلية بين المجموعتين اللتين لم يضمهما بيت واقعي واحد، وإن جمعهما الجوار وظروف الحصار ووحدة المعركة في غالب الأوقات.

يعرف أبناء الثورة أن أشد ما عانوه من اقتلاع القلب كان مع داعش التي اجتذبت إخوة لهم وأقارب ورفاق درب، حرفياً لا مجازاً. وهم لا يستطيعون تفسير ذلك إلى الآن، وإن تجاوزوه وتناسوه بحكم تسارع الأحداث وانقلاب المشهد ومقتل المذكورين. وبالمقابل يستغل أعداء الثورة هذه القرابة العضوية للإيحاء بأن المسافة بين الجيش الحر وداعش يسيرة، متجاهلين كل الفوارق الفكرية، والطبيعة الدموية المفرطة لهذا الشرخ الذي تجلى في معارك كسر عظم هدف فيها الطرفان إلى إلغاء الآخر تماماً.

ويبقى السؤال المعرفي مفتوحاً ويحتاج إلى إجابة، دون استسهال ولا تسييس مباشر ولا تصيد ولا تبرئة للذات.