النجاحات المذهلة لفصائل المعارضة السورية في السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي، تفوق ما كان بحوزتها أصلًا خلال أيام معدودة، وضعت معظم المتابعين في حالة من الحيرة والقصور عن تحليل هذه التطورات المفاجئة التي تسير بوتيرة أسرع من القدرة على استيعابها، وهو ما فتح الباب واسعًا لإطلاق الخيال ونظريات المؤامرة لتفسير ما يحدث.
والواقع أن ما جرى لا ينبغي تفسيره بعيدًا عن الحقائق التي تظهر يوميًا على الأرض، والمتمثلة في انهيار قوات النظام في كل المناطق التي تقدمت إليها فصائل المعارضة، وهو ما يعكس انهيارًا أعمق في مجمل بنية النظام العسكرية والاقتصادية والسياسية. وكان لا بد أن تصل الأمور في لحظة ما إلى هذه النقطة، أي الانهيار الشامل، بعد التراجع النسبي في الاحتضان الذي كان يحظى به من جانب حلفائه، روسيا وإيران بشكل خاص، نتيجة الحرب في أوكرانيا والتطورات الأخيرة في المنطقة.
وبعد استفاقتهم من الصدمة التي شلت حركتهم خلال الأيام الثلاثة الأولى، حاول حلفاء النظام تقديم بعض الجرعات المعنوية للنظام، عبر اتصالات تلقاها من بعض دول المنطقة. في حين حضر وزير الخارجية الإيراني إلى دمشق في اليوم الخامس من المعركة، ليقدم وعودًا عمومية بالدعم، بينما قضى جل وقته في زيارة مقام السيدة زينب قرب دمشق، وتناول الطعام في أحد المطاعم الدمشقية، قبل أن ينتقل إلى أنقرة ويكرر من هناك سمفونية الإرهاب والمؤامرة الخارجية. لكنه، وللمفارقة، وجه رسالة استجداء غير مباشرة لإسرائيل للتدخل ضد المعارضة، بدعوى أن ما يحدث يشكل تهديدًا لدول الجوار.
غير أن الكلام الذي سمعه الوزير الإيراني من نظيره التركي هاكان فيدان يلخص جوهر المشكلة في سوريا، حيث قال إنه لا ينبغي تفسير التطورات الأخيرة في سوريا بالتدخل الأجنبي، بل إن المشكلات التي لم تُحل منذ 13 عامًا، وتجاهل نظام الأسد للتحذيرات التركية والدولية بأن سياسة المماطلة التي ينتهجها على المسار السياسي، ستقود في النهاية إلى انفجار الوضع.
لا ينبغي تفسير التطورات الأخيرة في سوريا بالتدخل الأجنبي، بل إن المشكلات التي لم تُحل منذ 13 عامًا.
وإذا كان الثلاثي: إيران، وتركيا، وروسيا، ما زالوا يتحدثون عن مسار أستانة كطريق للحل السياسي في سوريا، فإن الجميع بات يدرك أن التطورات على الأرض تجاوزت هذا المسار، وباتت تفرض البحث عن طريق جديد يقطع مع أساليب المماطلة والتسويف التي وسمت هذا المسار، وكل المسارات الأخرى خلال السنوات الماضية، وذلك بعد أن يستوعب حلفاء النظام بشكل كامل حقيقة ما يجري، خاصة مع بروز مواقف دولية تحمل نظام الأسد مسؤولية تدهور الوضع بسبب عدم جديته في التعامل مع الحلول السياسية.
ربما من المبكر الحديث عن سيناريوهات الحل في سوريا، لأن هذا الحديث لا بد أن يكون مستندًا إلى التطورات على الأرض، وهي تطورات ما زالت متحركة ولا يمكن البناء عليها. لكن بالقياس إلى النقطة التي بلغتها حتى الآن، وإلى الروح الجديدة التي أشاعتها في المشهد السياسي السوري المجمد منذ سنوات، وفي المشهد الإقليمي، من الواضح أننا نتجه إلى بناء معادلة جديدة تبرز فيها قوة المعارضة وحليفها التركي، مقابل تراجع مكانة النظام وتآكل تأثير حليفيه الإيراني والروسي، اللذين لديهما مشاغل أخرى تتقدم على الاستجابة لطلبات النظام. خاصة أن كل منهما يشعر بالإحباط تجاه هذا النظام: روسيا بسبب عدم إصغاء النظام لنصائحها بالتعامل ببعض الإيجابية مع المبادرات التي كانت تطرحها، وآخرها محاولة جمع رئيس النظام مع الرئيس التركي، وإيران التي باتت تنظر بسلبية إلى النظام بسبب مواقفه إزاء حربي غزة ولبنان، ومحاولاته تحقيق مكاسب خاصة به على حساب انتمائه المفترض لمحور المقاومة.
النجاحات المفاجئة للفصائل المسلحة تفرض على أجسام المعارضة التحرك العاجل لتشكيل جسم سياسي جديد يتجاوز التشكيلات الحالية.
أما الولايات المتحدة والغرب، اللذان أعلنا أنهما يراقبان ما يجري عن كثب، فمن المرجح أنهما يفحصان الآن السيناريوهات المحتملة، وأداء فصائل المعارضة على الأرض وخطابها السياسي. وربما يحاولان التواصل معها عبر تركيا أو بشكل مباشر عبر الأطر السياسية القائمة للمعارضة. ومن هنا تبرز أهمية السلوك العقلاني بشكل عام للفصائل في المناطق التي دخلتها، لجهة طمأنة السكان، وروح التسامح التي سادت، وانضباط العناصر، وانسحابهم السريع من الشوارع بعد تأمين تلك المناطق، وترك مهمة التنظيم والإدارة للجان متخصصة رافقت القوى العسكرية.
والواقع أن النجاحات المفاجئة للفصائل المسلحة تفرض على أجسام المعارضة التحرك العاجل لتشكيل جسم سياسي جديد يتجاوز التشكيلات الحالية من ائتلاف وطني وهيئة تفاوض. جسم يضم فيما يضم ممثلين عن الجهات العسكرية، إضافة إلى ممثلين سياسيين عن كل فئات الشعب السوري، ويستند إلى قرار مجلس الأمن 2254، الذي ينص على تشكيل مجلس حكم يدير المرحلة الانتقالية. ليكون للحراك العسكري عنوان سياسي يتم عبره التخاطب مع المجتمع الدولي استعدادًا لأي استحقاقات سياسية مقبلة.
وبطبيعة الحال، فإن كسب الموقف الدولي ضروري ليس للاعتراف السياسي بالواقع الجديد وحسب، بل للمساعدة أيضًا على تدفق أوسع للمساعدات الإنسانية والإنمائية للمناطق التي تحت سيطرة المعارضة.