حذاء الزيدي.. حذاء ماكرون

2020.10.30 | 00:34 دمشق

1440x810_cmsv2_312a8054-0402-56ac-b27f-a720e2833438-4937824.jpg
+A
حجم الخط
-A

في نهايات عام 2008 كانت العديد من العواصم والمدن العربية تشهد تجمعات جماهيرية تحتفي بالصحفي العراقي الطموح منتظر الزيدي الذي قذف الرئيس جورج بوش الابن بفردتي حذائه خلال مؤتمر صحفي كان يعقده في بغداد برفقة رئيس الوزراء العراقي حينذاك نوري المالكي يوم 14 كانون أول/ ديسمبر. سيكتب العديد من الصحفيين والكتاب العرب في تلك الفترة عن حذاء الزيدي وأهمية الصفعة التي وجهها العرب من خلاله للغطرسة الأميركية. بينما سيذكر جورج بوش الذي كان قد تبقى له يومها سبعة عشر يوماً في البيت الأبيض أن الحادثة كانت أغرب ما جرى له لكنها تؤكد أن العملية الديمقراطية قد بدأت في العراق.

وسائل الإعلام العالمية تناولت الحدث باعتباره نادرة تاريخية غير مسبوقة، بينما ذهب سياسيون وكتاب عرب لاعتبار حذاء الزيدي رمزاً لزمن عربي جديد مقاوم للمخططات الأميركية في المنطقة، حتى أن أحدهم كتب معتبراً الحذاء "رمزاً خالداً للكرامة العربية". سيسجن الزيدي تسعة شهور ويخرج بعدها إلى سويسرا واحداً من أبطال العرب.

عام 2012 سيصطف الزيدي إلى جانب بشار الأسد ويعلن خلال لقاء جماهيري في مدينة جبلة السورية مناصرته للأسد وسيتهم اللاجئين السوريين في تركيا بأنهم باعوا "سوريا بحفنة من الدولارات". عام 2012 سيتزوج صحفية لبنانية انفصلت عنه عام 2015 لتنشر صوراً لوجهها المُدمّى بسبب ضرب الزيدي لها حسب ما ذكرت. في عام 2018 سيترشح بطلنا الذي جيّش الشارع بفعلته لعضوية البرلمان العراقي.

عام 2012 سيصطف الزيدي إلى جانب بشار الأسد ويعلن خلال لقاء جماهيري في مدينة جبلة السورية مناصرته للأسد

بالعودة إلى عام 2008. فبينما كانت التجمعات الشعبية المحتفية بالزيدي وحذاءه تجوب المنطقة العربية تصادف لي متابعة فيلم وثائقي يعرض لتفاصيل عملية "كمال عدوان" التي قادتها عام 1978 الفلسطينية "دلال المغربي". "عملية الساحل" كما ستُسمى إسرائيلياً، خطط لها وأشرف عليها بشكل مباشر القائد الفلسطيني خليل الوزير "أبو جهاد" (اغتالته إسرائيل في تونس عام 1988). العملية نفذت عبر إنزال بحري بقوارب مطاطية على الساحل الإسرائيلي، تلاه احتجاز تسعين رهينة معظمهم عسكريون، في حافلة رُفع عليها علم فلسطين. فيما بعد سيُطلق على الحافلة "جمهورية دلال المغربي". أسفرت العملية عن مقتل 39 إسرائيلياً في مواجهة ناريّة على مدخل تل أبيب إضافة لأفراد العملية، باستثناء اثنين هما حسين فياض وخالد أبو إصبع اللذان أصيبا وتم أسرهما. اعتبرت "كمال عدوان" في سياقها التاريخي لتلك المرحلة، العملية الأهم التي تنفذها المقاومة الفلسطينية داخل إسرائيل وسيستنفر الإعلام الدولي لتغطيتها.

لأجل أبو إصبع وفياض سيتم تعديل القانون الإسرائيلي لإجازة الحكم بالإعدام، وهي المرة الثانية، فقد كان عدِّل عام 1961 وأعدم حينها الضابط النازي المتهم بالمساهمة في الهولوكوست "أدولف أيخمان" بعد اختطافه من الأرجنتين. وسيتم الحكم عليهما بالإعدام، ثم سيخفف الحكم إلى عشر مؤبدات لكل منهما.

اللافت في الفيلم ليس تفاصيل العملية التي كُتب عنها الكثير سابقاً، إنما ما أورده بطلا العملية، وهما الراويان الأساسيان في الفيلم، عن ظروف حياتهما الحالية. حسين فياض، الأكثر حظاً، كان يعمل في السفارة الفلسطينية في الجزائر. ألّف كتاباً عن العملية وتفاصيلها لكنه لم يجد له ناشراً ولا حتى مموّلاً للنشر، ويعيش متألماً وحالماً أن ينشر كتابه. عام 2012 ستتخلى السفارة عن عمل فياض وتمنعه من دخولها.

أما المفارقة فكانت لدى خالد أبو إصبع فهو يعيش في الأردن. عمل طويلاً في بيع المثلجات متجولاً على أرصفة عمّان، ومن ثم تحوّل ليصبح سائق سيارة أجرة. سيتحدث بروح ساخرة ومؤلمة كيف أنه أحياناً يخبر بعض زبائنه العابرين أنه أحد أبطال عملية دلال المغربي دون أن يصدقه أحد، بل وأكثر من ذلك يعتبره البعض كاذباً متباهياً ويضحكون لحكايته ويجاملونه بهزّة من الرأس.

أجل كما استنتجتم للتوّ. بينما كان العرب يحتفون بحذاء الزيدي الذي دخل التاريخ، كان خالد أبو إصبع يروي لزبائن سيارته قصته التي لن يصدّقوها. كيف لا، والزيدي كان أكثر ذكاء، فاختار لحظة تنقل فيها معظم فضائيات العالم الحدث وقام بغزوته التاريخية، بينما كان الشاب الغرّ خالد أبو إصبع وطنياً ساذجاً ذهب في عملية يعلم أنه لن يعود منها. قضى فيها يومان يصارع هو ورفاقه أمواج البحر قبل أن يهتدوا للشاطئ، بدون كاميرات ولا بث مباشر، بهدف الوصول إلى مقر الكنيست الإسرائيلي واحتجاز رهائن لمبادلتهم بأسرى فلسطينيين في السجون الإسرائيلية، وبمصادفة قدريّة أصيب وأُسر ولم يقتل، ثم بمصادفة أخرى تم تحريره مع زميله حسين فياض في عملية تبادل للأسرى عام 1985عرفت يومها بصفقة الجليل.

اليوم ونحن نشارف على نهاية العام 2020 نطلّ على مشهدنا العربي، والسوري تحديداً، لنجد أننا ما زلنا في ذات الإحداثيات، بل حتماً في درك أسوأ. اليوم وفي كل لحظة ما زلنا نخلق أيقونات تشبه الزيدي وننصبهم أبطالاً، وبجهلهم وخداعهم يقودون الرأي العام أحياناً. نخرج في مظاهرات من أجل رسوم كاريكاتيرية أو بمواجهة تصريحات بتوظيف سياسي يطلقها شخص كالرئيس الفرنسي ماكرون لأهداف انتخابيّة تخصّه. تصريحاتٌ لا تختلف في هدفها عن هدف الزيدي من رمي حذائه. ننساق في معاركنا الوهمية وننسى الأهداف الحقيقية التي تحتاج حشد الطاقات، بعيداً عن تجييش فارغ بمواجهة مهووسين بالعداء للمختلف من الطرفين.

الكارثة أنه ليس لدينا فقط بطل منسيّ يبيع المثلجات على الأرصفة أو يعمل كسائق سيارة أجرة، وإلا لكنّا في حالة مقبولة. نحن لدينا عشرات الألوف ما زالوا في السجون دون أن نعلم إن كانوا بين القتلى تحت التعذيب أم أنهم ما زالوا قيد الموت البطيء. لدينا مئات آلاف المصابين المعاقين والجرحى، وملايين المُهجرين من سكان الخيام واللاجئين في أربع جهات الأرض، ولدينا جيل بلا تعليم وبلد دمره الأسد، ومع ذلك غالباً نسير بلا هدي باتجاه جبهات ليست لنا.

لم يكن عمل آلاف الباحثين والخبراء وأفراد المخابرات الذين سارعوا إلى المنطقة مع بدايات الثورات يهدف للإجابة عن السؤال المنطقي: لماذا ثارت وماذا تريد هذه الشعوب؟ بحثهم الدائم كان منصباً دوماً حول ما الذي تريده دولهم من المنطقة وكيف يمكن تحقيق مصالحها بصورة أفضل. ما يحدث للآن، واليوم بالذات ليس خارج تلك المصالح. ولكن ماذا عنّا؟ هل نحن في أزمة؟ أجل، وكامل الكوكب أيضاً.

كلمات مفتاحية