حديث ثقافي.. العجيلي رائد القصة السورية

2020.12.10 | 23:57 دمشق

abdulsalam-alojayli.jpg
+A
حجم الخط
-A

يمكنني أن أبدأ هذا الحديث الثقافي بسؤال: متى عرف السوريون الأجناس الأدبية الحديثة، وبالأخص النثرية منها كالقصة القصيرة والرواية والمقالة وأدب الرحلات؟

كان ذلك - كما يرى مؤرخو الأدب - في الثلاثينات من القرن العشرين، ثم بدأت ملامح هذه الإبداعات تتضح وتتقدم في الأربعينات والخمسينات، وصولاً إلى الستينات حيث ازدهرت كماً ونوعاً، وصار لها أعلامٌ كبار يُشار إليهم بالبنان.

ذكرت لحضراتكم في حديث سابق أن الرائد الأول للقصة القصيرة السورية هو المرحوم علي خلقي (1911- 1984)، وكان هناك كاتب آخر لم يحظ بنصيب وافر من الشهرة هو محمد النجار، قصصُه كانت أقرب إلى الحكايات، بمعنى أنها لا تلتزم بقواعد القصة القصيرة التي عُرفت في أوروبا، وبشكل خاص في روسيا مع أنطون تشيخوف وجوجول (صاحب قصة المعطف الشهيرة)، وثمة مَن يقول إن الرائد الحقيقي للقصة السورية، ذي الأعمال القصصية الناضجة فنياً هو فؤاد الشايب (1911- 1970).. وهذا أقرب إلى المنطق، لأن فؤاد الشايب كان يتقن اللغة الفرنسية، ومطَّلعاً على التجارب القصصية الغربية، إضافة إلى أنه وافر الإنتاج، أصدرت وزارة الثقافة السورية أعماله الكاملة سنة 1984 في ثلاثة مجلدات ضخمة، وحظيت أعماله باهتمام النقاد والباحثين فتوفرت لدراسته مراجع جيدة.

ولكن ماذا عن عبد السلام العجيلي وريادته القصة القصيرة؟

في أواخر الثمانينات، كنت، أنا محسوبكم، مقرباً من الحزب الشيوعي السوري (جماعة يوسف الفيصل). وكانت مجلتهم "دراسات اشتراكية" متخصصة بالدراسات السياسية وحدها، ولكنها بدأت تنعطف نحو الاهتمام بالأدب، وقررت إصدار عدد خاص عن القصة القصيرة السورية. وكان في ذهن هيئة التحرير أن يكون عدداً مميزاً، ومرجعاً يُستفاد منه في مستقبل الأيام، واقترحت عليَّ رئاسةُ التحرير - بصفتي صديقاً لبعض أعضاء الحزب - أن أساهم معهم في إجراء لقاء موسع مع الأديب السوري الكبير عبد السلام العجيلي.

كانت تلك فرصة نادرة بالنسبة إليّ لتحقيق أمرين، أولهما الاطلاع على أعمال هذا الأديب الذي حاز شهرة واسعة خارج إطار الدوائر الثقافية اليسارية، إضافة إلى شهرة عالمية تَوَصَّل إليها من خلال رحلاته، وثقافته الموسوعية، وعمله في الطب، وتوليه وزارة الثقافة لفترة قصيرة.. وثانيها أن التعرف على عبد السلام العجيلي شخصياً، بالنسبة لكاتب صاعد مثلي (لعل كلمة صاعد أحسن من "مبتدئ")، شيء جميل، وغير سانح لأيٍّ كان.

ذكرت لحضراتكم في حديث سابق أن الرائد الأول للقصة القصيرة السورية هو المرحوم علي خلقي (1911- 1984)، وكان هناك كاتب آخر لم يحظ بنصيب وافر من الشهرة هو محمد النجار

كانت مجموعتي القصصية الثانية "عودة قاسم ناصيف الحق" قد صدرت عن وزارة الثقافة في مطلع سنة 1989، وصار في رصيدي الأدبي مجموعتان قصصيتان صغيرتان (وجهُ كل واحدة منهما، كما يقول أستاذنا حسيب كيالي، بعرض إصبعين)، ومع ذلك قررت أن أهدي نسخة من كل منهما للأديب الكبير عبد السلام العجيلي، ولكنني وقعت في مأزق، وهو: من أين آتي بعنوانه؟ وأذكر أني اتصلت هاتفياً بصديقي الشاعر الرقي المرحوم عبد اللطيف خطاب، وسألته عن العنوان فقال لي: اكتب على المغلف (الرقة- عبد السلام العجيلي). تصل رسالتك. ففعلت، ووصلت الهدية بالفعل، والعجيلي الرائع قرأهما، وأرسل إليّ بطاقة بريدي يشكرني فيها على المتعة التي حققتها له قراءتهما، على حد قوله.    

إنها، لعمري، من الأشياء الجميلة، والمعبرة، أن ترسل رسالة لأديب يعيش في مدينة كبيرة، وتصله الرسالة دون أن تكتب (الحي الفلاني، الشارع الفلاني، البناية رقم، المدخل رقم..).. وكان هذا عكسَ ما جرى معي خلال تلك الآونة، إذ جاء لزيارتي في إدلب الأصدقاء لقمان ديركي وعبد اللطيف خطاب وأحمد عمر، وكنت قد أعطيتهم عنواني في المساكن الشعبية الجنوبية مفصلاً، وأكدت لهم أنني معروف في إدلب! ومع ذلك ضلوا الطريق، وشرعوا يؤلفون القصص التي تدل على كوني مجهولاً، منها قولهم إن أحد المارة الذين سألوهم عني قال لهم: لا يوجد أحد من عائلة بدلة في إدلب، اذهبوا إلى معرتمصرين.. وقال لهم آخر: يوجد فرع لآل بدلة في بلدة سلقين، اسألوا عن صاحبكم في سلقين، وقال لهم ثالث إن فلاناً من آل بدلة خدم معه عسكرية في الكسوة، واقترض منه نقوداً لم يعدها إليه، وحبذا لو يساعدونه في تحصيلها!.. إلى أن اهتدوا، أخيراً إلى منزل عمنا عوني بدلة في المساكن الجنوبية، فذهبوا إليه، وأرسل معهم ولده سفيان ليدلهم على بيتي، وحينما وصلوا، نزلت إلى الشارع لاستقبالهم، وبدؤوا بالمزاح والتنكيت على موضوع واحد هو قلة شهرتي، وخلال ذلك مرت بنا ابنتي "فرح"، وكان عمرها بضع سنوات، نظرت إليّ وتابعت طريقها، فقال لي عبد اللطيف:

- هاي البنت بتشبهك.  

قلت: نعم. هاي بنتي.

فقال: ومع هيك ما عرفتك!

كان لمقابلة مجلة دراسات اشتراكية مع عبد السلام العجيلي أهمية خاصة، بل إنها، برأيي، مفصلية، فقد تزامنت مع تولي الرفيق ميخائيل غورباتشوف الرئاسة في الاتحاد السوفياتي، وإطلاقه مفهومي البروسترويكا والغلاسنوست اللذين يقتربان من مفهوم الديمقراطية الغربية بشكل كبير، وقد استجاب فريق من الشيوعيين السوريين، يمثلهم فصيل يوسف فيصل، لمسألة الديمقراطية، وجرى استقطاب الرفاق الحالمين بالديمقراطية إلى هذا الفصيل، وبقي المتشددون عقائدياً مع فريق خالد بكداش.   

كان كِتَاب "الأدب والإيديولوجية في سورية" لبوعلي ياسين ونبيل سليمان قد وضع عبد السلام العجيلي في صدارة الأسماء التي تناولها بالنقد، وقد صنفه المؤلفان ضمن دعاة المجتمع القديم، ووضعاه بجوار ألفت الإدلبي وبدوي الجبل، وقالا إن هؤلاء "لا جديد عندهم لولا النزعة المعادية للاستعمار الصهيوني الاستيطاني".. وأبديا سرورهما لأن "قلة عدد هؤلاء مؤشر على أن دور الرجعية قد قارب على الانتهاء".. ويضيفان: لولا المستوى الفني الرفيع للعجيلي لقلنا إنه انتهى.

سبق أن أشرت، في حديث سابق، إلى أن كتاب "الأدب والإيديولوجية" كان يعبر عن مرحلة نقدية انتهت في أواخر الثمانينات، واسمحوا لي أن أضيف أن لحظة الانفتاح الحقيقية على الثقافة الوطنية في سورية، بمعناها الواسع، أي بعيداً عن ثنائية (التقدمي - الرجعي) قد ابتدأت مع البروسترويكا، وما ذهابنا إلى العجيلي ومقابلته، ووضع الحوار معه في صدارة عدد القصة القصيرة لمجلة شيوعية، إلا نوعاً من الحفاوة التي تتضمن رد اعتبار لهذا الأديب الكبير.. والحقيقة أن عبد السلام العجيلي قد قابلنا، حينما ذهبنا لمقابلته، بحفاوة مماثلة، إذ لا شك في أن غصة كانت لديه مصدرُها أنه كان شبه مُحَارَب من تيار ثقافي عريض هو التيار الشيوعي، أو بمعنى أوسع: التيارات اليسارية.

من بين الأسئلة الكثيرة التي طرحناها على العجيلي في ذلك الحوار، أن بعض النقاد يقولون عنه إنه رائد القصة القصيرة السورية. وقد تضمن جوابه إشارة إلى محمد النجار وعلي خلقي وفؤاد الشايب، وأضاف: يمكن القول إن قصصي كانت أولى القصص الفنية قليلة العيوب إلى درجة الكمال في الأدب السوري الحديث. (وهذا صحيح إلى حد كبير).

تذييل أول: سوف أخصص حديثاً قادماً للحديث عن شخصية عبد السلام العجيلي.

تذييل ثان: لا شك أن نبيل سليمان من أكثر الأدباء والنقاد السوريين عطاء وحضوراً سورياً وعربياً.

تذييل ثالث: لبو علي ياسين مأثرتان كبيرتان، الأولى كتابه "الثالوث المحرم- الدين- الجنس- السياسة"، والثانية تفرده بالدراسات الاجتماعية، وأدب النكتة، والأدب الشعبي.

كلمات مفتاحية