حديث ثقافي: التغريبة الفلسطينية

2021.01.15 | 00:18 دمشق

10202012201846273.jpg
+A
حجم الخط
-A

أن تشاهدَ مسلسلاً تلفزيونياً، كـ التغريبة الفلسطينية، بعد 16 سنة من إنتاجه، وتجده جميلاً، وطريفاً، بل وتبقى مشدوداً إليه على مدى 31 ساعة، فهذا يدفعك للبحث عن العوامل التي أدت إلى هذا النجاح..

إنه، إذن، مسلسل ناجح، ويمتلك عنصر الديمومة، على الرغم من أن المشاهدين لا يكترثون – عادةً - بالأعمال الفنية التي تحمل قضية دينية، أو قومية، أو وطنية، كقضية فلسطين، ومن جهة أخرى، كان إنتاج مثل هذه الأعمال، في السابق، يقتصر على التلفزيون الذي تمتلكه الدولة، باعتبار أنه عمل لا يتوخى الربح.. ومن ذلك نستنتج أن إقدام شركة من القطاع الخاص "سورية الدولية" على إنتاج التغريبة الفلسطينية دليل على أنه عمل ناجح، سوف يحقق أرباحاً ممتازة، ولا شك أن هذا قد حصل بعد إنتاجه.

تمكن الكاتب وليد سيف والمخرج حاتم علي، بذكاء شديد، من كسر الأساس التقليدي الذي تقوم عليه الأعمال التي تحمل قضايا كبرى، من خلال توجههما إلى خلق حالات إنسانية دافئة ومؤثرة في ثنايا العمل. بمعنى آخر؛ يمكن للمرء أن يتساءل: إذا كانت القضية الفلسطينية في لحظة إنتاج المسلسل، سنة 2004، ما عادت تحمل أي زخم، وحتى الحكام الذين اعتادوا المتاجرة بها أصبحوا يخجلون من متاجرتهم، فما الذي عدا ما بدا حتى يتم طرحُها فنياً بمسلسل تلفزيوني ضخم، وبكلفة إنتاجية عالية؟

دعونا نرجع قليلاً إلى الوراء، ونستذكر المعادلات المتعارَف عليها بخصوص الإنتاجي التلفزيوني، ومنها أن النص الجيد هو الأساس الذي يمكن أن يؤدي إلى نجاح أي عمل تلفزيوني، بمعنى أن المسلسل ينجح بالنص الجيد حتى ولو كان مخرجُه متوسطَ المستوى، أما إذا كان المخرج متميزاً، مع النص الجيد، فلا بد من ارتفاع نسبة النجاح.. يأتي بعد ذلك "الاسم"، وهناك مصطلح في عالم الإنتاج هو "الاسم البياع"، فأعمال بعض الكتاب وبعض المخرجين "بياعة"، بمعنى أن المحطات التلفزيونية، وبالأخص الخليجية، تشتري العمل المعروض عليها لمجرد قراءة اسم المخرج، (وأحياناً الكاتب)، وتجدر الإشارة إلى أن البيع على اسم المخرج ليس دليلَ أهمية دائماً، وقد ينتج عن طفرة إعلامية، مثلما حصل في أواسط التسعينات حينما احتل اسم نجدة أنزور المرتبة الأولى في الأعمال البياعة، واستمر ذلك لفترة محدودة، حتى استعادت أعمال المخرجين المخضرمين أمثال هيثم حقي ومأمون البني مكانتها، إضافة إلى أعمال مجموعة من المخرجين الشباب مثل حاتم علي وسامر برقاوي والليث حجو وسيف الدين السبيعي والمثنى صبح ورشا شربتجي.. وبعد انطلاق الثورة السورية 2011 انحصر شغل نجدة أنزور في مجال التشبيح لمصلحة السلطة التي تقتل الشعب، وهي المكانة التي يستحقها بالفعل..

وليد سيف، بلا شك، واحد من أبرز كتاب السيناريو العرب أمثال أسامة أنور عكاشة ووحيد حامد ومحفوظ عبد الرحمن وممدوح عدوان.. ومن بعدهم ريم حنا وأمل حنا وفؤاد حميرة ورافي وهبي ويم مشهدي وحسن سامي اليوسف ونجيب نصير وسامر رضوان.. ولكي نفهم طريقة وليد سيف في تأليف مسلسل "التغريبة" يجدر بنا أن نقول إن عملية تهجير شعب من أرضه، بحد ذاتها، عنصر درامي ممتاز، مع أنه ليس من ابتكار المؤلف، فهو موجود ومسجل في كتب التاريخ، ولكنه استطاع أن يجدل فوقه خيوط حكاياته الخاصة، ثم تصعيد الصراعات المتضمنة في حكاياته، رويداً رويداً، حتى تبلغ كل منها ذروتها مع تصاعد الصراع في حكاية أخرى، وهكذا.. ومما رأيناه، في التغريبة الفلسطينية، أن عائلة صالح اليونس "خالد تاجا" كانت، قبل عملية التهجير الأولى، مهاجرة من مكان آخر، يعني أنها جزء من حمولة عشائرية قوية (ولكنها تفقد هيبتها لابتعادها عن جسم العشيرة الكبيرة)، وهذا ما جعل المتنفذ في القرية "أبو عايد" يغتصب حقوقهم، لا تنفع في التصدي له شراسة الابن الأكبر أحمد أبو صالح وشجاعته الهائلة.. وهناك مستويات أخرى من الصراع قد جرى تعميقها كالصراع بين السكان الأصليين مع الإنكليز واليهود الذي يأتون إلى فلسطين تمهيداً للسيطرة عليها، والتناقض الذي يأخذ شكل الصراع بين أهالي القرى وأهالي المدينة، وقد اتخذ هذا الأخير صبغة جديدة بعد النزوح الأول فأصبح التناقض قائماً بين أهالي المدن والقرى من جهة، وسكان "المخيمات" من جهة أخرى.

لا يوجد أدنى شك في إخلاص الكاتب والمخرج كليهما لقضية فلسطين، ولكن إخلاصهما الأكبر في هذا العمل كان للإنسان، وقد ظهر أن قتال "أبو صالح" ومجموعة الشبان الآخرين ومنهم "عايد" ابن الرجل المتسلط، لم يقتصر على محاربة الإنكليز والتصدي لليهود، بل على محاربة الظلم، والجهل، ولا يمكن نسيان سلسلة المشاهد التي ركزت على تضحية العائلة الفقيرة من أجل تعليم الولد "علي" الذي لعب دور "الراوي العليم" على طول المسلسل، والتضحية شملت حتى الطفل الآخر حسن الذي غش في القرعة لمصلحة شقيقه.. وكذلك وقوف العائلة كلها إلى جانب أم جميلة وابنتها اللتين تعرضتا لاضطهاد كبير لكونهما ضعيفتين، بلا سند.. والأحلى من هذا كله أن أبو صالح أحمد اليونس عندما أصبح قائد فصيل في ثورة 1936، وصار الجميع يهابونه، لم يلجأ إلى الانتقام الشخصي من مضطهديه، بل بقي سلاحه موجها ضد الظلم والاغتصاب، وبقي رأسه مرفوعاً على الرغم من أن كل شيء في تلك الحياة يؤدي إلى الإذلال.

الحالات الإنسانية التي رصدها المسلسل وقام بنيانه عليها، لا تحصى، فعدا عن الفقر ووعورة الحياة والتهجير كان هناك مأساة الفتى رشدي الذي استشهد أبوه، ومأساة أمه التي زوجها أهلها بضغط من الأعراف الاجتماعية لرجل بخيل ونذل، وفقدانها أثر أهلها أثناء الهجرة، ومأساة "صالح، ابن أحمد" الذي ضاع أثناء الطوشة وأتت به عائلة أخرى لأهله، ومأساة أم سالم "رنا جمول" التي أرادت أن تحمل طفلها الرضيع وحملت بدلاً عنه المخدة، ففقدت عقلها، وأصبحت صديقة إنسانياً مع رشدي لتشابه مأساتيهما، ومشكلة صلاح مع البنت التي أحبها ورفض أهلها الحب لكونه ابن المخيم.. إلخ. 

(ملاحظة: في مسلسل العراب يحصل الشيء نفسه تقريباً: ابنة العراب المخبولة تنجذب إنسانياً إلى الدكتور الذي يقوم بدوره حاتم علي)..  

لو أردنا أن نلخص حاتم علي المخرج بكلمات قليلة، لقلنا إنه:

أولاً- يختار الممثلين بشكل صحيح، ويأخذ من كل ممثل أقصى ما عنده من طاقات. وتجدر الإشارة إلى أن كل من الممثلين الكبار الذين شاركوا في التغريبة خالد تاجا، جمال سليمان، تيم الحسن، رامي حنا، حسن عويتي، وضيوف الشرف الذي ظهروا بأدوار محدودة، ظهروا هنا وكأنهم يؤدون أجمل أدوارهم، مع وجود مفاجأة سارة هي المخرجة الأردنية من أصل أرميني جولييت عواد، فبالرغم من أننا رأيناها في التغريبة لأول مرة، وجدنا أداءها لا يقل عن أداء النجوم الكبار، إن لم نقل إنها تفوقت عليهم بحضورها المفاجئ.

ثانياً- يختار حاتم أفضل المساعدين والفنيين ويأخذ من كل واحد منهم أفضل ما عنده. وهنا أريد أن أسجل ملاحظة هي أن الموسيقي طاهر مامللي وضع موسيقا مناسبة للعمل، من بينها فاصل موسيقي مأخوذ عن أغنية فايزة أحمد التي كتب كلماتها مجدي نجيب ولحنها محمد سلطان وتقول لازمتها: آخد حبيبي يانا يما، آخد حبيبي يا بلاش

زارع في القلب وردة والنبي يما ما تقطفيهاش

غازلا له يما بيدي الطاقية وازاي يما ما يلبسهاش

ثالثاً- حاتم علي بارع في اختيار أماكن التصوير، وتصميمها، وملئها بالتفاصيل الدالة على ما يريد قوله. وعندما يتطلب الأمر صناعة عاصفة رياح أو مطر لا يقفز عليها بل يحاول صنعها من خلال المؤثرات البصرية والصوتية ويصنع لها مشاهد قصيرة وسريعة ترافقها.

رابعاً- لديه مقدرة استثنائية على إدارة المجاميع البشرية، من خلال اللقطات العامة، ثم اللقطات التفصيلية، ويخرج من مونتاج الفئتين بمشاهد جميلة ومعبرة.

خامساً- إن ما كتبته أعلاه لا ينتمي إلى النقد الأكاديمي المتخصص، وإنما هي مجموعة من الانطباعات التي خرجت بها بعد مشاهدتي مسلسل التغريبة الفلسطينية للمرة الثانية بعد رحيل الصديق العزيز حاتم علي.