حديث أبو المراديس.. سلسلة الخونة حتى طلال ديركي

2019.03.11 | 18:03 دمشق

+A
حجم الخط
-A

أعجبني تعليق الأستاذ يامن حسين على فيلم طلال ديركي الوثائقي "الآباء والأبناء"، فقد توجه بالدعاء إلى الله أن يمضي هذا الشهر على خير، ويبقى للإنسان صديقان إذا لزم الأمر يستطيع أن يقترض من أحدهما عشرين يورو ثمن ليتر عرق!

هذا التعليق عَبَّرَ، بدقة، عن واقع الحال، فقد أحدث الفيلم المشار إليه صدمة عنيفة في صفوف معارضي النظام السوري، وجعلهم يختلفون  في الرأي إلى درجة المشاحنة، ومؤكد أن الكثيرين منهم قد تخاصموا، في الواقع اليومي، وفي العالم الافتراضي، وأجرى أحدُهم للآخر إلغاء صداقة، أو: بلوك.

الطريقة الذكية التي اتبعها يامن في التعبير عن واقع الحال تشبه طريقة شيخنا محمد الماغوط الذي زعم أنه انتسب إلى الحزب القومي السوري لأنه يوم قرر الانتساب إلى حزب ما، كان يعاني من البرد، وكان "القومي السوري" هو الحزب الوحيد في "السَّلَمية" الذي يوجد في مقره مدفأة!

والماغوط كان بلا أدنى شك، رجلاً وطنياً، ترتعد فرائصُه من فكرة الخيانة، ولكنه من فرط ما قرأ وشاهد وسمع وعاين

يكاد الفيسبوك أن يكون المرتع الأول للتخوين، بعبارة أخرى: أصبح التخوين على الفيسبوك واصلاً إلى محازم الخيل

من شؤون التخلف والجهل والفساد والتكتكة والدوبلة راح يهددنا بقوله: سأخون وطني. ولكن حظ الماغوط كان قوياً جداً، لأنه مات قبل أن يتهمه أحدٌ بالخيانة. أو لعل بعض الناس خونوه، ولكن تخوينهم إياه لم يصل إلينا، لأنه لم يكن على زمانهم شيء اسمه "فيسبوك".. فاليوم يكاد الفيسبوك أن يكون المرتع الأول للتخوين، بعبارة أخرى: أصبح التخوين على الفيسبوك واصلاً إلى محازم الخيل.

سأحكي عن حادثتين من تجربتي الخاصة لهما علاقة بالتخوين. الأولى، في سنة 2016، عندما تعاظمت التهديدات من قبل الروس والإيرانيين والنظام والتحالف الدولي، بضرب مدينة إدلب، كتبتُ على الفيسبوك نصيحةً لحاملي السلاح أن يخرجوا من مدينة إدلب والمدن الرئيسية الأخرى، ويتركوا أمر إدارتها للمدنيين، وإذا بأحد الفيسبوكيين يكتب لي: يا خطيب، ليش ما بتطلب من النظام وأعوانه ومن التحالف الدولي أن يقصفونا والسلام؟ فأجبته بكلمة واحدة: خسئت.

والثانية هي أننا كنا نجلس، ذات مرة، في أحد مطاعم تقسيم (إسطنبول)، والتقط لنا أحدُ الأصدقاء صورة ونشرها على الفيسبوك، فجاء التعليق الأول، حرفياً: شو؟ قبضتوا ثمن دماء الشهداء وقعدتوا تاكلوا وتشربوا؟

لم يكن صاحب التعليق معروفاً لدينا، وإلا لكنا أخذنا كلامه على محمل الجد ووجهنا إليه سؤالاً واحداً هو: إذا كان هناك، بالفعل، متاجرة بدماء الشهداء، وأن هناك مَنْ يدفع ثمنها، لماذا يدفعه لنا نحن؟ مَنْ نحنُ أصلاً؟ وماذا في يدنا من أوراق لنفاوض عليها ونبيعها للآخرين؟ يا أخي نحن ناس عاديون ومن المعيب أن تستسهل تخويننا إلى هذه الدرجة المرعبة.

بالعودة إلى طلال ديركي، أقول إن السبب الأساسي للخلاف حوله وحول فيلمه أنه معارض مثلنا، وعنده فيلم سابق شهير يمكن أن (يشفع له)، فلو كان طلال مثل "نزار علي بدر" الذي يترنم بحب القائد ويمجد البوط العسكري -حاشا السامعين- لكنا خاطبناه بمثل ما خاطبنا نزاراً بعبارات تليق بسويته البوطية.

انقسمنا، نحن المصدومين بفيلم "الآباء والأبناء" إلى عدة شرائح:

الأولى، قررتْ أن طلال ديركي خاين، ومشبوه، ومرتبط بالنظام وأعوانه، ويتبنى رواية النظام بأن كل الذين ثاروا عليه إرهابيون. ولذلك يجب أن يشطب، ويهان، ويدان.. هكذا، تعسفاً، ودون مناقشة.

الشريحة الثانية قالت إن طلال ديركي ليس خائناً بشكل صريح، وإنما تعمد صناعة الفيلم على هذا النحو لإرضاء المجتمع الغربي، وجماعة جائزة الأوسكار الذين يمتلكون نوعاً من الرهاب المسبق تجاه الإسلام والمسلمين، ومن ثم فإن فيلمه يرضي عقلياتهم، وهذا، من ثم، يضعه في صف الخونة.

الشريحة الثالثة، قالت إن الفيلم جيد من الناحيتين الفنية والفكرية، لكن الآن ليس وقته، فما تزال معركتنا مستمرة، والفيلم عبارة عن تشويش.

الشريحة الرابعة، قالت إن طلال ديركي ليس خائناً، ولكن فيلمه سبب نقمة على اللاجئين السوريين في دول أوروبا، وقد روى أحد اللاجئين في الدانمارك أن الدانماركيين شاهدوا الفيلم وأعجبوا به، وصاروا يقولون لنا: هكذا أنتم يا مسلمون، مثلما جاء في الفيلم.. وأضاف: لم يبق إلا أن يطلب الدانماركيون منا أن نضب الشناتي ونرحل! وحينما بدأ القصف على خان شيخون قال أحدهم إن فيلم ديركي قد آتى أكله.         

الشريحة الخامسة تعترف بأن الفيلم ناجح، وأن لتنظيم القاعدة وجوداً ما في محافظة إدلب، ولكن طلال قدم أهل إدلب كلهم على أنهم قاعديون، وهذا لا يمكن أن ينتج عن جهل من طلال لأنه ليس بجاهل.. يعني أن وراء الأكمة ما وراءها.

السادسة، هي شريحة المختصين التي تتحدث عن الفيلم (وثائقي) لذا يجب أن تنحصر مادته بموضوع محدد، وعلى الصعيد الفني هو إنجاز كبير، تَطَلَّبَ من المخرج مغامرات متتالية، في الدخول إلى مناطق خطيرة، والبحث عن مجموعة جهادية تصلح مادة للفيلم، وأن التحضيرات والتصوير والعمليات الفنية استمرت زمناً طويلاً، فهو بدأ مغامرته في سنة 2014.. ويؤكد أصحابُ هذا الرأي على أن الفيلم الوثائقي لو تطرق لكل ما يحيط بالعينة الاجتماعية من وقائع واعتبارات سياسية وارتدادات لما عادت تسميته (وثائقي) مقبولة.

أخيراً؛ باعتبار أنني ابن منطقة إدلب، وأنني محسوب على خط الثورة، من خلال مشاهدتي الفيلم، ومتابعتي لمختلف الآراء، يمكنني أن أسجل بعض النقاط:

1- نظام الأسد هو المسؤول الأول عما حدث في سوريا من جرائم وتدمير وتخريب وتهجير، وهو قبل الثورة وخلالها وبعدها يقوم على الظلم والتمييز بين المواطنين دينياً وطائفياً وعرقياً، واشتغل وما زال يشتغل على صناعة الأحقاد والاصطفافات غير الوطنية والتطرف.

2- حقيقة أن الأرياف السورية، ومنها أرياف إدلب، ومنها بالأخص ريفا معرة النعمان وجبل الزاوية التابع لمنطقة أريحا، عبارة عن بيئة محافظة، متدينة، فمن الطبيعي أن يكون هناك مَنْ نظرَ، في يوم من الأيام، بإعجاب، إلى الحالة الجهادية التي كرسها تنظيم القاعدة في أفغانستان.. ولكن هذا كله لم يكن من الممكن أن يتطور إلى حالة جهادية محلية ثم يظهر على سطح الأحداث قبل اللجوء إلى السلاح وإخراج هذه المناطق من قبضة النظام الحديدية.   

3- غادر نظام الأسد محافظة إدلب بنفس السهولة التي غادر فيها وزير الدفاع حافظ الأسد القنيطرة والجولان في الـ 67، ثم بدأ يتضح، يوماً بعد يوم، أنه قد

إن نظرة شعوب أوروبا وأميركا إلى المسلمين، وبضمنها الشعب الدانماركي، لم تكن إيجابية في السابق، فالجهاديون (قاموا بالواجب) الذي يجعل هذه الشعوب تتطير منا عشرات المرات

خصصها لنقل مقاتلي المناطق المحيطة بالعاصمة وعائلاتهم إليها بموجب التسويات وما عرف باسم المصالحات. ومعلوم أن معظم قادة الفصائل المسلحة المنقولين إلى إدلب هم من تنظيم القاعدة. بمعنى أن النظام ساهم في زيادة تواجد هؤلاء على أرض إدلب.

4- إن هيئة تحرير الشام التي تتألف من جبهة النصرة وفصائل أخرى مشابهة لها تحكم محافظة إدلب منذ 2015، والعالم كله يعرف ذلك، فبماذا يفيدنا إخفاء هذه الحقيقة؟

5- إن نظرة شعوب أوروبا وأميركا إلى المسلمين، وبضمنها الشعب الدانماركي، لم تكن إيجابية في السابق، فالجهاديون (قاموا بالواجب) الذي يجعل هذه الشعوب تتطير منا عشرات المرات، يعني هذا لم يكن بسبب فيلم طلال ديركي، والنظام والروس والإيرانيون كانوا يقصفون عموم البلاد السورية، وخان شيخون من الجملة (وضربوها بالكيماوي) قبل الفيلم، وبعده.

وهكذا نصل إلى أن الفيلم كان صدمة لا بد منها لتنبيهنا نحن، قبل غيرنا، إلى خطر وجود تنظيم القاعدة في أي مكان على الأرض السورية، وهو خطر يحتاج إلى معالجة فورية وواسعة، وأن تخوين السياسيين والفنانين والمعارضين بحد ذاته خطير، ويحتاج إلى استبعاد، ومع هذا، وبسبب ضخامة مأساة الشعب السوري وعمق جراحنا، كان على طلال ديركي أن يبرز مسألتين إما بلقطات سريعة، أو من خلال الصوت (فويس أوفر)، الأولى مسؤولية النظام، والثانية أن لا شعب إدلب ولا شعب أي منطقة في سورية ينتمي إلى تنظيم القاعدة، وإنما ظهر هذا خلال ثورة الحرية.