حتى الكذب "الغوبلزي" لم يعد ينفع

2020.07.27 | 00:01 دمشق

29314315_1825665600810597_6242257334307913728_o.jpg
+A
حجم الخط
-A

حملات الإحباط والتيئيس وسد الآفاق وقطع الأمل أمام أي ملمح خلاص من منظومة الاستبداد لا تتوقف. وراء كل واحدة من المقولات التالية جحافل من أبواق الدعاية والترويج "ليس هناك تعاطف دولي أو محلي مع ثورة الإرهابيين الداعشيين"؛ "حلفاء النظام لا خلاف بينهم، ويدعمونه حتى الموت"؛ "أميركا وروسيا تنسقان لإبقاء النظام"؛ " المعارضة أكثر فساداً من النظام"؛ "قانون قيصر يطال الشعب، ولن يؤثّر على النظام" يمكن تفنيد كل واحدة من هذه المقولات الخبيثة وتبيان درجة "الغوبلزية" بها.

أحد أشكال بث اليأس والقنوط في النفوس هو نشر مقولات متخيَّلة حول قضايا أساسية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر الترويج لفكرة أن الحل في سوريا لا يمكن تحقيقه إلاّ من خلال قيام الإدارة الأميركية بالحوار مع نظام الاستبداد في دمشق.

في مقال روّج له البعض- دون أن يدركوا أنهم يساهمون بحملة الإحباط- يتحفنا كاتبه (أعتقد اسمه كمال علم) بعبارة يدعي أنه اقتبسها عن كسنجر؛ تقول "أميركا مدعوة للتفاوض مع نظام بشار الأسد للخروج من المستنقع السوري".  بالمناسبة بعد البحث والتدقيق؛ تبيّن أنه لا وجود لهكذا اقتباس إلا في مخيلة الكاتب.

طبيعة هذه الطروحات المغرضة تجعل الرد عليها لزاماً، لإيضاح الزيف الذي يكتنفها، والتي يحاول راسموها الإيحاء بأن التعامل مع نظام الاستبداد في دمشق هو الشرط اللازم والكافي لصنّاع القرار الأميركي لإيجاد حلول لمشكلات الشرق الأوسط المستعصية.

بغض النظر عن حاجة الأبواق لهكذا مدعمات تسويقية لبضاعتهم؛ هناك جملة من الأسباب الموضوعية تجعل إطلاق كسنجر لهكذا عبارة مستحيلاً؛ وخاصة في هذا الوقت فالنظام الذي يتحدث عنه قد تماهى مع إيران لدرجة أنه فقد استقلاليته الذاتية التي تمتع بها نظام الأسد الأب في علاقته مع إيران؛ ونذكر بهذا السياق مفاوضات كيسنجر المتتالية مع حافظ الأسد التي تكللت بتعهد تاريخي من قبل حافظ بالالتزام بحماية حدود إسرائيل في الجولان ومنع العمل الفدائي الفلسطيني من الجولان؛ هذه المفاوضات ما كانت لتنجح لولا عامل "الاستقلالية النسبية" التي كان يتمتع بها الأسد الأب، والتي يفتقر اليها النظام الحالي بسبب ارتباطه مع إيران مثل التوءم السيامي.

وثمة أمر آخر يؤكد عدمية جدوى التفاوض مع المنظومة الحالية مقارنة مع السابقة من حيث التزام كلٍ منهما بتعهده للآخرين؛ ففي الوقت الذي نال الأسد الأب "شرف" التزامه بحماية إسرائيل بشهادة كيسنجر الذي أثنى دوماً على التزام حافظ بكلمته مؤكداً تكراراً أن تعهدات حافظ لحماية أمن اسرائيل كانت بمثابة "سند الطابو" والتي أثبت الزمن صدقيتها. ولعل الذكرى تفيد ذوي الألباب في هذا السياق حيث نُقل أن كيسنجر بعد أحد لقاءاته مع حافظ الأسد، اتصل مع "غولدا مائير" ليزف لها خبر الموسم وهو أن حافظ الأسد قد وافق على منع العمل الفدائي انطلاقاً من الحدود السورية مع إسرائيل لكنه اشترط عدم نشر الخبر أو التباهي به.

الأمر الثالث الذي يجعل نسب هكذا قول لكسنجر مستحيلًا هو معرفة العالم بمجمله وليس حصيفاً مثل كسنجر بأن الخداع هو الميزة الأساس لنظام اتبع أسلوب المخادعة مع الغرب الذي رأى فيه شاباً واعداً. ولكن خيبات أمل الأوروبيين والأميركيين كانت كبيرة لأن بشار وفي أكثر من مناسبة حنث بوعده بفك ارتباطه مع إيران حيث كانت حادثة اغتيال الحريري بمثابة سكب المياه الباردة على أحلام الغربيين بتغيير سلوكه تجاه إيران؛ ونذكر بهذا الصدد أيضاً الإحباط الذي اعترى أحلام الرئيس الفرنسي ساركوزي الذي بنى أحلاماً على وعود قطعها له بشار عبثاً لتغيير علاقته مع إيران.

ولعل من المفيد أن نذكر أيضاً مشاعر الإحباط التي انتابت الوفود الشعبية السورية التي التقاها بشار في بداية الانتفاضة السورية حيث كان بشار يرسم آمالاً كبيرة بالتغيير أمام هذه الوفود، ولكن لم يحقق منها شيئًا.

ولكن؛ لنفترض أن بشار ملتزم بكلمته التي يتفوه بها، فإن ثمة سؤال يُطرح في سياق علاقته مع إيران: إذا كانت نوايا بشار بفك عرى علاقته مع إيران صادقة، فهل يستطيع ذلك، وهل يتمتع باستقلالية القرار لفعل ذلك؟ إن ما تكشّف مؤخراً حول الدور الإيراني في إنهاء "خلية الأزمة" إضافة إلى تكبيل سوريا باتفاقات تستبيح نظامها وتكبله تنفي أي إمكانية للتواصل معه.

إذا كان كاتب المقال قد بنى تفاؤله على ضرورة قيام أميركا بالتفاوض مع بشار على قياس تاريخي وهو اتصال الرئيس ريغان مع حافظ الأسد في منتصف الثمانينات فقد نسي أن هذا الاتصال كان اتصالاً برتوكولياً محضاً بُعيد مساهمة حافظ الأسد بإطلاق سراح رهائن أميركيين كانوا محتجزين في لبنان من قبل حزب الله؛ وللعلم في هذا السياق أن حافظ الأسد كان يتخذ من موضوع خطف الرهائن عملية لابتزاز الغربيين والأميركان لتحقيق مكاسب سياسية تدعم وجوده في لبنان إضافة إلى كونها عملية تجارية كانت أجهزة مخابراته تجني مبالغ لابأس بها بمقياس ذاك الزمان.

مقابل كل تلك الحملات التضليلية الهادفة لإبقاء منظومة الاستبداد بأي وسيلة، تقف الحقيقة الموثقة التي تقول إن هناك قراراً أميركياً أوروبياً باقتلاع هذه المنظومة؛ وتتمثل أدوات الاقتلاع الظاهرة بالخنق عبر مفاعيل قانون قيصر، وعبر ملفات الاجرام المتراكمة عليها، وعبر الاستهداف العسكري شبه اليومي؛ والتصاعدي؛ فمنذ يومين مارك ميلي رئيس أركان أميركا ونظيره الإسرائيلي اجتمعا في قاعدة إسرائيلية شمال النقب استعداداً لعمل عسكري؛ والناقلة نيمتس//Nimitz في مياه المتوسط/؛ وجرذان إيران وميليشيات منظومة الاستبداد لا يعرفون أين يختبؤون من طائرات لا تغادر الأجواء؛ وروسيا تتفرج، وربما تعطي إحداثيات للحفاظ على مخرج. أما نظام الاستبداد فتراه يحصر مهمته بأخذ ما تبقى من السوريين رهائن تحت حصار الجوع والمذلة والبطش والبلطجة؛ واستغلال وباء الكورونا وقانون قيصر ليخنق ما تبقى؛ ولكنه ساقط دون حراك؛ وبأسرع ما نتصوّر، وبالأدوات إياها؛ كَذِبُ الغوبلزية لم يعد ينفع.