"حتى آخر خيمة" وليس حتى آخر منظمة

2022.01.31 | 05:16 دمشق

mlhm_ttwy.jpg
+A
حجم الخط
-A

نهايات عام 2012 كتب سوريون كثيرون عن  شعورهم بالامتنان الكبير لمبادرة انطلقت في أكثر من عشر جامعات مصرية للتبرع لنصرة السوريين في الداخل، وكذا للاجئين منهم إلى مصر. يومها وصلت مجمل التبرعات إلى أكثر من مليون جنيه (150 ألف دولار).

تداول الناشطون السوريون الحدث باعتباره مأثرة، وهو كذلك بالفعل. مثل هذا الموقف السوري تكرر مع الكثير من المبادرات الفردية والجماعية التي تتالت على مدار العقد الأخير، مهما كانت بسيطة. كان خبراً صحفياً قيام سيدة فرنسية تُدعى "أوريلي بوابان" بجمع آلاف قليلة من اليوروهات من أجل إسكان مؤقت للاجئين السوريين في باريس خلال التدفق السوري الكبير إلى أوروبا عام 2015، وبقاء الكثيرين منهم في الشارع. يومها أيضاً اعتبرنا عملها بطولياً يستحق الثناء، وهو كذلك بالفعل. وفي جميع الحالات لم يخطر لنا أن نشكك بنوايا أو نزاهة أصحاب أي مبادرة من هذا النوع.

اليوم، من البديهي أيضاً أن يشعر السوريون بالامتنان، لكل إنسان أو جهة تسهم بالتخفيف من معاناة أهلهم في مخيمات الشمال، وأقل القليل، من المفترض ألا نبادر للطعن بأمانتهم والتشكيك بنزاهتهم. ومع ذلك يجب تلمّس بعض العذر لمن شكك وطعن. كيف ذلك؟ تحتمل الحالة السورية  كل هذه المتناقضات وأكثر. رغم أن المبادرين مدفوعون بتعاطف إنساني واجب، تفرضه الفطرة السليمة، إلا أن المشككين أيضاً لديهم بعض العذر، وهم يرتكزون على إرث عظيم من خذلان العالم لهم، وتغاضيه عن المذبحة التي ترتكب بحقهم منذ أكثر من عقد، إضافة لتجارب فساد لم تعد خافية على أحد، فلدينا إرث فساد تراكم من تجارب تعرّض فيها السوريون مئات المرات للاستثمار في دمهم ودموعهم، ولشتى أنواع الاستثمار الرديء. ومع ذلك لا يمكن تجاهل أن حملات الطعن هذه تشكّل البيئة المثالية الطاردة للمبادرين في الانخراط بالشأن العام، وتبدو حالة من العدميّة، ولو استجاب لها من تطولهم الحملات، لفرغت الساحة من أي فعل.

ألف ومئة مخيم في شمال غرب سوريا، بين كبيرٍ منظم مسجل أممياً، وآخر عشوائي صغير أصر منشئوه على بقائهم فيه سوية كأبناء قرية واحدة. عدد الخيام في هذه المخيمات يقترب من ثلاثمئة وخمسين ألف خيمة، تنتشر بين ريف جسر الشغور وجبال حارم غربي مدينة إدلب، وصولاً إلى مخيمات مدينة بزاعة ومدينة جرابلس شمال مدينة حلب. يستلزم تحويل هذه المخيمات إلى قرى بيتونية نحو مليار ونصف مليون دولار، في حين أن كلفة إعادة ساكني هذه الخيام إلى مدنهم وبلداتهم، فيما لو كانت هناك جدّية دولية للحل، لا تتعدى ثمن وقود الحافلات الخضر التي أتت بهم إلى هذا الجحيم، الذي أطلق عليه حين تهجيرهم "مناطق آمنة".

تيار يرى وجوب إنهاء جريمة الخيم القماشية، وآخرون يهاجمون ويشككون بكامل هذا التوجّه، إضافة طبعاً للتشكيك المادي الذي، على ما بدا خلال السنوات الماضية، بات فولكلوراً سورياً أصيلا سواء استند على أدلّة، أو مع انعدامها، كما في حالة الحملة الأخيرة. معمعة  كبيرة على صفحات وسائل التواصل الخاصة بالسوريين. طوفان من الأسئلة المنطقية جداً، والمشروعة جداً. "حتى آخر خيمة" نعم، ولكن إلى أين، وماذا بعد ذلك؟ أصحاب المعاناة الحقيقيون سيرون السؤال ترفاً نخبوياً مخجلاً، ولهم كامل الحق إن تفاعلوا مع السؤال بالمثل الشائع:"اللي بياكل العصي مو متل اللي بعدّها". أياديهم في النار، ولكن من قال إن أيادي الآخرين في الماء؟ هل احتمالات التغيير الديمغرافي الذي قد تعنيه مخيمات الإسمنت ماء؟ بل وأكثر من ذلك، هل احتمالات التقسيم الذي يتبدّى في كل خطوة ماء؟ هل هذه مجرد مبالغة في المخاوف، في حين أن الأمر لا يعدو حملات إنسانية لانتشال ملايين البشر من البرد والجوع؟ بين الأسئلة المشروعة التي تدعمها المخاوف وتطيح بكل محاولة لتدوير الزوايا وتجميل الاحتمالات ومآلاته، وبين وجع سكان الخيم نترنح كسوريين اليوم. وأهم الأسئلة هل من العدالة إبقاء كل هؤلاء الناس في تلك الظروف غير الإنسانية، كل تلك السنوات، بناءً على تلك التخوفات، ليكونوا هم وأطفالهم خط الدفاع عن قضية السوريين.

اقتربت الأرقام المجموعة في حملة فريق ملهم التطوعي "حتى آخر خيمة" من المليوني دولار. هذا المبلغ بحسب القائمين على الحملة سيكفي لبناء خمسمئة بيت

أحد عشر مليون دولار جمعها اليوتيوبر الكويتي "أبو فلة"، وقد أسهمت فيديوهات المعذبين السوريين بنصيب وافر من محفزات المساهمين. مساهمون تحركت ضمائرهم في زمن صارت فيه لغة الضمير بائدة، حتى من وجهة نظر الضحايا. اقتربت الأرقام المجموعة في حملة فريق ملهم التطوعي "حتى آخر خيمة" من المليوني دولار. هذا المبلغ بحسب القائمين على الحملة سيكفي لبناء خمسمئة بيت بكلفة أربعة آلاف دولار أميركي للبيت الواحد. حملة اليوتيوبر والإعلامي المصري يوسف حسين "جو" أكملت كلفة بناء خمسين بيتاً بذات كلفة بيوت ملهم. منذ أيام انطلقت حملة الفلسطيني إبراهيم خليل تحت مسمّى "القلوب الرحيمة". حملة وصفها كثيرون بأنها "هبّة فلسطينية". كانت نتيجتها جمع مليوني دولار أمريكي. مساهمة فلسطينيي الداخل، خففت كثيراً من الجرح السوري، وأعادت تنقية الصورة، لمن صدمته صور قاسم سليماني والحوثي المرفوعة في غزّة.

معظم المدارس في المخيمات عبارة عن هنغارات. الهنغار هو خيمة كبيرة هيكلها معدني بسقف وجدران من قماش، في ذات هذه المدارس نجد طلاباً يحملون حقائب زرقاء عليها شعار "اليونيسيف" منظمة الأمم المتحدة للطفولة. الشعار سنجده أيضاً على الدفاتر والأقلام ومطرة الماء الخاصة بكل طفل. عند السؤال عما يمنع اليونيسيف من إقامة مدرسة بيتونية كبديل عن الهنغار؟ يأتي الجواب بأن سياسة المنظمة الدولية تمنع ذلك، لأنه يسهم في تثبيت التغيير الديموغرافي الذي أنتجته حملات تهجير المدنيين السوريين من مدنهم وبلداتهم. بل إن تبليط أرضية الهنغار ممنوعة، فهي شكل من أشكال العمران الثابت الذي يخالف سياسة المنظمة. ولنا أن نتخيل هنا لو أن اللاجئين الفلسطينيين منذ عام 1948 مازالوا يسكنون الخيام كل تلك العقود، بسبب هذا المبرر.

عدة شخصيات ممن ينطبق عليهم تصنيف "كوادر مجتمعية" شاركوا في الحملات الأخيرة الخاصة بإنهاء مأساة سكن الخيمة، فنانون ورجال دين وسياسيون وإعلاميون بارزون. مع شعورنا بالسعادة للانخراط النبيل لهؤلاء في الحملة الإنسانية، إلا أنه يجب التنبه على طول الخط، خوفاً من خطر تحويل المخيم المؤقت الآني لمستوطنات دائمة لا تحمل من ذكريات "حق العودة" إلا المسمى الجديد للقرية. عائدون، القرية الشامية، تجمع قرى أهل حلب، مساكن المعرة، مركز إيواء مهجري الغوطة. أسماء كثيرة لمجمعات تم بناؤها حديثاً علها تقي المهجرين شر الخيمة، وحياة المخيمات البائسة. تأخذنا هذه المسميات إلى تفاصيل ومراحل مأساة الفلسطينيين وأسماء الحارات التي بنيت لهم بالقرب من المدن الكبرى في دول الجوار الفلسطيني، وما زالت تُدعى مخيمات. مخيم اليرموك بالقرب من العاصمة السورية دمشق، مخيم الشجرة بالقرب من مدينة طرابلس اللبنانية، مخيم العائدين بالقرب من مدينة حمص. إضافة إلى أسماء المحال المنتشرة هناك، حلويات عكا، مطعم القدس، فروج طولكرم. لتأتي أجيال فلسطينية بعد ذلك تسأل عن معنى تلك المسميات، بينما لا يملك الجيل الذي غادر أرضه، إلا مفاتيح عتيقة لبيت ربما أزاله الصهاينة بالكامل. وفي غالب الأحيان انتهى الفلسطيني الذي هُجر من أرضه إلى قبر غريب في لجوئه النهائي، مصطحباً مفاتيح بيت وذكرى وطن، لم يبق منه إلا أسماء مدنه وقراه على لافتات المطاعم ومحال البقالة والخضار.

عند التشكيك بكل عمل، ومحاولة تدمير سمعة أي مؤسسة أو منظمة، فما الذي سنصل إليه؟ سنصل إلى أننا جميعاً فاسدون، ولا نصلح لأي عمل جماعي، وكان الأسد محقاً! جميعنا نعلم دأب موسكو ونظام الأسد وجيوشهما الإلكترونية، على تدمير سمعة أي منظمة معارضة، وخير مثال الهجوم المكثف ضد "الخوذ البيضاء"، وهذا جهد لم يكن مجانياً. كان رسالة أن كل ما هو خارج سلطة الأسد موضع شك، بل وفاسد. أخيراً، ورغم كل مخاوفي من تأبيد قضيتنا لا يمكن تجاهل الثناء على المبادرين. "أبو فلة"، فريق ملهم، يوسف حسين، إبراهيم خليل شكراً لكم جميعاً، لكنني خائف.