حتمية التغيير كبديل للتدمير الذاتي

2018.10.25 | 00:10 دمشق

+A
حجم الخط
-A

طرحت موجة الربيع العربي وما تحولت إليه من صراع إقليمي/ دولي على المصالح والنفوذ العديد من الأسئلة الجوهرية حول مفهوم الدولة "عربيًا" بعد الاستقلال، وعوامل انهيار الهوية الوطنية الناشئة آنذاك، بالإضافة لأسئلة أخرى تتعلق بأسباب نمو الهويات الفرعية بشكلٍ غير مسبوق ما دفع بالجماعات للانكفاء إلى حيز الطائفة أو العرق أو القبيلة الأمر الذي أدى إلى تعبيد الطرق أمام احتلالات متعددة وفق مصالح التقسيمات السابقة.

ربما أعادت جريمة اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي داخل مبنى قنصلية بلاده في إسطنبول

لم يكن مصادفةً أن تتخذ تركيا من القضية مدخلًا جديدًا لإنجاز تفاهمات تضمن وتحمي مصالحها وتساهم في تفكيك بعض الملفات الشائكة شرق الفرات مثالًا.

طرق تلك الأسئلة خاصة بعد ما جرى من توظيف للحادثة في سياق الصراع على النفوذ بين أنقرة والرياض لا سيما في سوريا وما باتت تعنيه للأولى من حامل استراتيجي لمشاريعها السياسية والاقتصادية في المنطقة إثر التعثر –المرحلي- في ليبيا ومصر واليمن، فلم يكن مصادفةً أن تتخذ تركيا من القضية مدخلًا جديدًا لإنجاز تفاهمات تضمن وتحمي مصالحها وتساهم في تفكيك بعض الملفات الشائكة شرق الفرات مثالًا.

على مستوى المملكة العربية السعودية سار كل شيء وفق المنطق العربي السائد الذي يبتدئ بالإنكار ويصل نهايةً إلى رواية ركيكة ثم البحث عن مساومات وصفقات تضمن استقرار العرش، وملامحها في هذه اللحظة ما رشح من تسريبات عن تفاهم –مازال قيد العرض والطلب- رعاه وزير الخارجية الأميركي أساسه أن تمنح الرياض لأنقرة احتياجاتها من النفط بتكلفة تقل نحو خمسين بالمئة عن سعر السوق حاليًا، وتدفع لواشنطن مبلغ ترليون دولار أميركي تعويضا عن أحداث 11 أيلول/ سبتمبر لإنهاء ملف اغتيال خاشقجي وفق ما ذكرته وسائل إعلام عديدة، طبعًا بالإضافة للإجراءات الملكية التي سبقت وتلت اعتراف السعودية بمقتل الرجل.

بعيدًا عن الصفقات والمآلات السياسة الممكنة ثمة مشهد رافق القضية تختصره مجموعة من الأقلام والأصوات حاولت تبرير أو تبرئة ساحة القتلة، مستعرضةً انعدام أخلاقية الأطراف التي تلقي بالتهم، مشيرةً إلى أن الأخطاء تحدث حتى في أكثر الدول رقيًا، في حين أبدع البعض الآخر في التعبير عن الإعجاب (صريحًا أو مبطنًا) بمن استثمر الجريمة لمصالح سياسية اقتصادية، مردفين بعض الجمل الاعتراضية عن انهيار المنظومات القيمية/ الإنسانية لدول تأتي على مثل هذه التصرفات لتسقط من الحسابات الأخلاقية –عبر ممر أمني ضيق- عمليات إدارة واستثمار مأسٍ كبرى متواصلة منذ عقود في فلسطين وسوريا واليمن والعراق، ببساطة هو ضمير الموقع والواقعية المبتكرة.

أمام معطيات "التفاهة" التي تتحكم بالمصائر والقضايا الجمعية هناك حاجة ماسة للتنقيب في الأبجديات بحثًا عن لغة مشتقة بإمكانها توصيف واقع الرداءة في هذه البلاد، لا بد من طرق أبواب التاريخ أو العلوم والفلسفة القديمة للتفتيش عن مشاهد/ مقولات/ حقائق على نسبيتها تحمل أملًا ولو ضئيلًا باحتمال نجاة الإنسانية من تغول أنظمة توحشٍ تحكم هذا الكوكب، إذ يتضح أكثر أن البشرية بحاجة إلى مضاد حيوي يقاوم هذا الانهيار المريع في المفاهيم والقيم، ويساهم في توليد أنزيمات مناعية تمنع بلادنا من الاستمرار في ترصيع قصور الخوف والنفاق بما يُحدث انقلابًا على نشراتنا العلاجية الوحيدة الأشبه بعمل جراحي يهدف لإنعاش عقول الإجرام في آليات وبنى الحكم العتيد.

فلسفيًا تستحيل حياة الأمم دون معايير أخلاقية مطلقة تشكل سوارًا حاميًا من النوازع والغرائز المدمرة، وبما أن الفلسفة تتكئ على قوانين العقل والرياضيات

كيف يمكن شرح استمرار عجلة القتل بالدوران في العالم الثالث منذ عقود طويلة بإشراف النصف الآخر "المتحضر"؟ كيف يمكن أن نفهم المآسي المتواصلة في البلاد العربية على مدى العقد الأخير دون وجود أي مخارج حقيقية؟

وتجسد روح العلوم فهي دون شك تقدم حقائق علمية ثابتة وفق ما يؤكده أصحابها على الأقل، إلا أن عالم اليوم لا تعنيه هذه التفاصيل "الماضوية" ويرتكز على دعائم خانات طريق الحرير التي تحولت إلى دول وتغذي طقوس متعتها من بورصات الدم المسفوح على أعتاب المضاربات في أسواق العقار والسلاح ومصادر الطاقة، فتتحول عوالم بأسرها إلى مطاحن بشرية تضمن استدامة رفاه الآخرين على الضفة المقابلة من الأرض.

قد يجد البعض في فلسفة أو "أنسنة" ما يحدث مقاربه قديمة لا تتسق ومعطيات الواقع الحديث ولهم في ذلك مبرراتهم –اتفقنا أو اختلفنا معها- لكن كيف يمكن شرح استمرار عجلة القتل بالدوران في العالم الثالث منذ عقود طويلة بإشراف النصف الآخر "المتحضر"؟ كيف يمكن أن نفهم المآسي المتواصلة في البلاد العربية على مدى العقد الأخير دون وجود أي مخارج حقيقية؟ كيف يمكن استيعاب انزياح موجات التغيير إلى مربع إعادة إنتاج النظم القديمة؟ وأسئلة كثيرة غيرها ربما تتضمن الإجابة عليها ما يكفي من دلائل على أن الحداثة تشيد آفاق تفوقها على أنابيب الدم وعطب الضمائر.

حين يهوي الوطن إلى مستوى العصابة وترقص الجموع على إيقاع قتلةٍ مأجورين يصبح الواقع مجرد نافذة تطل على مقابر جماعية تسميها العروبة دولًا وتتجاهل حقيقة احتضان عوامل انهيارها ذاتيًا لأنها تستعصي على أبنائها وتفتح أبوابها أمام كل العابرين فتحمل أرحامها سفاحًا بأجنة الدمار، وبالتالي فإن كل المحاولات من النظم السائدة –مهما استأجرت من أقلام وأصوات وشاشات- لضخ الحياة في عروق المعادلات القديمة القائمة على ثنائية "الخنوع مقابل الأمن" لن تجدي نفعًا، ما يجعل من التحليلات التي تفيد بأن "الدرس السوري" كفيل بقتل أو لجم أحلام التغيير تفتقر إلى الكثير من الموضوعية، وهو ربما ما سيدفع لتوليد معادلة جديدة في الواقع العربي ملخصها إما خطوات صادمة تقود إلى تغيير جذري شامل أو الخراب كسبيل وحيد لتحقيق "عدالة الضحية".