icon
التغطية الحية

حاكمة القلعتين: سحر الحكايات في الفانتازيا الإنسانية

2023.06.04 | 15:41 دمشق

لوحة
(اللوحة: عبد القادر عبداللي)
+A
حجم الخط
-A
"كل تعريف للسحر هو نتاج عصره؛ فالكلمات والمفاهيم تحمل معانيَ متعددة، وتغير المعنى أو تضيعه اعتمادًا على التطور الاجتماعي والثقافي والديني والفكري للمجتمعات والسحر وسيلة قيِّمة لاستكشاف هذه العلاقات". من كتاب (السحر مقدمة قصيرة جداً، أوين ديفز، ترجمة رحاب صلاح الدين)

في عناصر الرواية الفانتازية

يكتب د.جمال شحيد في كتابه (الرواية مقدمات قصيرة): "تنحدر كلمة Fantasy التي تعني الظهور والصورة والزينة والتخيل، من اليونانية. وهي توظف للدلالة على الأحداث الغريبة والمحيرة واللامعقولة، ومنها ظهور القرينة والأشباح والأطياف والعائدين بعد الموت. وتتخلها الأحلام الاستباقية والإمساخات، بالإضافة إلى ظهور الملائكة والشياطين. وتعج بمصاصي الدماء والغيلان والجن والعفاريت والساحرات والسحرة وسكان الكواكب الأخرى. ومن أمثلها ما نجده في حكايات (ألف ليلة وليلة)، وراوية (تحولات الحمار الذهبي، للكاتب اللاتيني أبوليليوس)، وكتاب (التحولات، أوفيد، 43 ق.م). ونجدها أيضاً في بعض روايات القرون الوسطى، ولاسيما الرواية القوطية الطافحة بقصص القصور المهجورة التي تسكنها الأرواح". هذا التعريف الإيجازي بالعناصر الفنية والأدبية الذي يحويه، ينطبق تماماً على رواية (حاكمة القلعتين عن جنيات وساحرات الشام وعرافاتها) للروائية (لينا هويان الحسن).

يحضر السحر في الحكايات بتأويلات متعددة، فهو المعرفة القادرة على كشف البواطن الإنسانية في بعض الحكايات

فتعدنا مقدمة الرواية: "فليحضر القارئ نفسه للقاء أغرب النساء وأكثرهن جاذبية وندرة في هذا النص الفريد الذي ينهل من معارف الحكمة القديمة المغيبة، يستلهم إرث زمن السحرة، ويفتح بوابات الماضي السحيق وفق رؤية حداثية متنورة. رقصة روائية تحملنا صوب قصور وقلاع تركها الزمن الغابر كتخلف تهمس لنا: كان يا ما كان في سالف العصر والزمان".

شحيد

السحر بين البواطن البشرية والأدب الإنساني

بدأ كل شيء حين ولدت راوية الحكاية في حقبة أميرة المغول، أمها كائن هوائي قادر على الطيران من نسل الملك السومري سبار الذي زار السماء وتلقن أصول فن الفأل والعرافة. درست في الشام لكنها قصدت القلعتين قبيل اقتحام فصائل داعش المجرمة للمنطقة، لتحمل أمها على المغادرة. كان أفراد داعش يدمرون ويقتلون ويسبون النساء. تلتقي كل الخيوط في هذه الحكاية بين قلعتين، وعلى ضفة نهر عظيم في أرض حكمتها امرأة غاشمة، شريرة وقاتلة، مستبدة. في هذه الحكاية نفك اللغز الذي يمكن للنساء أن يتحولن إلى آلهة وربات وخرافات، الشجاعات اللواتي يخرقن القوانين ويحافظن على البراءة. ويبوح لنا الكتاب السري للسحرة بأوصاف النساء المولودات في حقبات سحرية خالصة.

ويحضر السحر في الحكايات بتأويلات متعددة، فهو المعرفة القادرة على كشف البواطن الإنسانية في بعض الحكايات: "الشيء الأكيد أن السحر حكم الأرض برمتها قبل نشوء الحضارات التي نعرفها. وكل ما بقي منه شذرات وحسب تم توارثها بسرية أودت أحيانا بحياة حامليها.  ألا تعتقدون أن فهم ماضي البشرية هو فن بحد ذاته؟. فن الكشف ع الصلة بين الكلمة المنطوقة والقوى الخفية الساحرة. السحر درب يقودنا صوب العمق، يغوص في داخلنا، كلما ذهبنا أعمق زادت قدرتنا على تجاوز حدودنا". وفي حكايات أخرى فإن السحر هو أثر الأدب على الحضارة الإنسانية: "وجد الأدب كي لا يحرم البشر من نعمة الخيال، وحتى يتمكنوا من العيش بهناء في عالم الحقيقة. وجد الفن لإسعاد النفس. كل ما يبدو عن الإنسان من شر سببه تعاسة روحه، لربما تغدو الحكايات دواء مثلما كانت ذات زمن مضى".

المكان الفانتازي، المكان التاريخي، المكان السياسي

تروي لنا الحكائة العديد من الحكايات العجائبية التي تجعل من أرضها مناطق جغرافية موزعة في البادية السورية بين حلب، حمص، والسلمية وغيرها من الأماكن التي يتداخل فيها التاريخي بالحكائي. وتتعدد الحكايات التي تتضمنها الرواية من حكاية (أشباح البنات وحكاية حاكمة القلعتين) حين تطلب المرأة الساحرة من الملك مهراً تطلب فيه قتل أربعين بنتاً للتخلص من الشابات الجميلات، وبالفعل، يتم أسر أربعين بنتاً عذراء يتيزن بجمال شديد، يتم تقييدهن من معصاممهن وأرجلهن ونحرهن ودفنهن في مكانين، أحمدهما في قلعة حلبية والآخر في قلعة زلبية على ضفتين متقابلتين.

لينا

يكتب د. جمال شحيد عن الزمان والمكان في الرواية الفانتازية: "تتعامل الرواية الفانتازية مع الزمان والمكان انطلاقاً من ثلاث زوايا: زاوية الراوي أو القارئ في المحصلة، وللمكان أيضاً علاقة بالشخوص، أقله من زاوية متخيلهم. كثيرة هي الأمكنة في الرواية الفانتازية، التي تكون أمكنة مغلقة ونائية (قصوراً مهجورة، حصوناً قديمة، فضاءات سوريالية وغير جغرافية، بيوتاً مسكونة بالأرواح والجن والشياطين والمردة) ولكن القارئ يقارن بين المكان المتخيل والمكان الذي يعيش فيه، وزاوية الشخصيات كما في رواية (صورة دوريان غراي) حيث يحدد أوسكار وايلد مكان الرواية في لندن الفيتكورية".

يُبنى المكان أيضاً في رواية (حاكمة القلعتين) على ثلاثة مستويات، هناك المستوى الحكائي حيث يتخذ المكان سماته العجائبية كما هو الحال في مغارة الوثن الجدي ذي الوجهين في غابات جبال البلعاس، ولكن أيضاً يحضر المكان على المستوى التاريخي: "تعلمون أن مدينة حلب، عاصمة الشمال السوري، استقبلت هجرات متنوعة في مطلع القرن العشرين: شركس وأبخاز وشيشان وتركمان وداغستان وآذرينن وبوشناق وكرد وأرمن وترك هاربين من أتاتورك وروس فارين من البلاشفة". ويبقى تجليات المكان على المستوى السياسي: "تلاشت جبال البلعاس وتحولت مع بداية التسعينيات إلى محمية طبيعية. اندثرت مهظم ملامح جبال وهضاب البلعاس الأخاذة مع وجود عصابات داعش الإرهابية، والتي وجد أفرادها في مغائرها وكهوفها الكثيرة ملاذاً آمناً من الغارات الجوية".

الفن هو السحر الحقيقي والحاجة الإنسانية للحكايات

تربط الروائية بين العرافة، الكهانة، والسحر، إلى حاجة الإنسانية إلى القصص، ففي حكاية (شبح قناة العاشق حكاية ملك سلمية وأميرة أفاميا) تصرح الروائية: "إن البشر رواة قصص، لماذا؟ لأنهم يريدون تغيير عوالمهم، يتمردون، يثورون، عبر الكلمات. تغيير الحياة عبر القصص أقل كلفة من تغييرها بلحظة وعي ورفض حقيقيين. نحاول بهما تغيير عالمنا، العالم الذي قد نولد فيه لكن لا نحبه. إذن الفانتازيا هي الحل، والحسر أحد أمضى الحلول". وفي الفصل المعنون (قلعة النجم المرحوسة بالجنية زغل) يظهر السحر كاتفاقية نبرمها مع الكلمات فتقودنا إلى الدهشة بكل لحظة في الحياة. السحر استمتاع. وفي حكاية (الجنية قزح ساكنة قصر الحير الشرقي وأعاجيب جبل البشري وليلة اكتمال قمر الذئاب) تبين الكاتبة اختلاف العراف عن الساحر، فالعراف يحاول قراءة الغيب، أما الساحر فهو الذي يحاول امتلاك مفاتيح السيطرة على قوى غيبية ويسخرها لمشيئته. وتبين أن العرب كانوا يفرقون بين العرافة والكهانة. فالكهانة تنظر المستقبل أما العرافة فتنظر الماضي.

تركز الروائية في أكثر من موضع على أن السحر الحقيقي في الحضارة الإنسانية هو الفن: "لابد من أن الفن منحة مدبر هذا الكون الأزلي. هو أسلوب ذكي لإيداع أمورنا الحميمة في مكان ما. لهذا، اخترت الكتابة لأروي لكم عن رحلتي الغريبة. يعيش العالم رواية متواصلة لا تنتهي ونحن أبطالها. تنتهي أدوارنا لنأخذ أدوار جديدة في صميم خطاب المستقبل الكوني"، ومن بين الفنون، وكما هو موضح، فإن الكتابة هي أكثر الأفعال الإنسانية ارتباطاً بالجمال والسحر: "الكتابة فن الأحشاء من السموم. لا جمال مع السم. سم البغض والغيرة والكره والحقد. مشاعر سوداء تنعكس في العيون والمشية وحركات الأيدي. البشر السليمون هم الذين يرون في أنفسهم تحفاً فنية، وأنهم من بقايا النحوم التي كانت. يرون أنهم من نثار النجوم، وأنهم بريق ولمعان، وقدرهم التألف". فالحكايات هي أفضل ما يتطلبه العقل البشري من الأفكار الجديدة بإستمرار: "مازلت أصر عليكم أن تقرأوا ما كتب هنا على أنها أفكار جديدة تنعش العقول، فلا يمكن للأدمغة أن تتوقف عن استيعاب أفكار جديدة لأنها تموت إذا لم تفعل ذلك. تعلمون أن ما يسعد الأطفال هو اللعب، وعندما يولدونفقراء فإن اللعب يخفف من وطأة الفقر وقساوته، وهذا بالضبط ما يجب أن نحتفظ به: روح الطفل". وابتكار القصص حاجة للحضارة الإنسانية: "عندما يؤلف البشر خرافات عن عالم آخر غير هذا الذي يعيشونه، حينها يكون اليأس قد تمكن منهمن، فنحاربه ببدع من صنع الخيال، حيث هناك عالم لا يملكه أحد إنما يُروى ويعيش في الخيال".