حافظ ويندسور

2022.09.24 | 06:42 دمشق

حافظ ويندسور
+A
حجم الخط
-A

ما أشدّ تقاليد المُلك في بريطانيا، وما أحزم مراسم المُلك وواجباته وأركانه، تتويجًا وخروجًا، موائد وقلائد، نومًا ويقظة. المراسم صلاة، ومناسك الزيارة تشبه العبادة، الملكة هي "ماما" الكنيسة، (فليرحمها إله بريطانيا وإله أيرلندا وأقاليمها الأخرى) كما جاء في كلمة التأبين. الملكة تحكم وليس كما يشاع عنها؛

 هي التي تفرض الطوارئ،

 هي التي تقرّ البرلمان بفرعيه،

جيش بريطانيا هو جيش الملكة،

برلمان اللوردات مصنوع على عين ولأعضائه عصمة تشبه عصمة الأئمة لدى الشيعة،

وسيجد المرء سبب حمّى الحب والإعجاب الذي انتشر في العالم للملكة، في جمع بريطانيا بين الحاضر والماضي؛ مجلس العموم هو الحاضر، الملكة هي الماضي العريق.

الإنجليز هم أئمة المسرح، في إجراءات تنصيب حل البرلمان، يحمل رجل يرتدي أزياء عجيبة ويقرع الباب بصولجان، فلا يفتح له، وقد حفر الصولجان الذي لا تعقد جلسات مجلس العموم إلا به تجويفًا تكاد تعشش به الطيور! زوار الملكة يركعون تعظيمًا للملكة، وهذا أمر منكر من جهات ثلاث: الثقافة العربية الجاهلية والإسلامية، والثقافة الليبرالية الأميركية، والاشتراكية النظرية التي جعلت الرئيس "رفيقًا" في الخطاب الإعلامي ذات مرة، وإن لم يكن كذلك، لكنّ الإعلام خطف عقولنا بالمراسم وأكل بها حلاوة، وموالح أيضا. ويزعم أنَّ الملكة -رأس الكنيسة الإنجيلية- تملك ولا تحكم.

حافظ الأسد كان يتشبّه بالملكة البريطانية، فهو يتظاهر بأنه لا يحكم، بل يعارض ما تفعله فروع المخابرات "الشقيّة"

يمكن للمقارنة بين الإنجليز والعرب، تذكر عثمان بن الحويرث الذي أراد تملّك العرب يوما فأبت قريش، وقالت: نحن قوم لقاح، وتهامة لا تدين لملك، لكن المرء سيجد أنّ حافظ الأسد كان يتشبّه بالملكة البريطانية، فهو يتظاهر بأنه لا يحكم، بل يعارض ما تفعله فروع المخابرات "الشقيّة"، ومجلس اللوردات يقابله لوردات المخابرات وفروعهاـ أما مجلس العموم، فهو مجلس الشعب، بل إن حافظ الأسد أتقى وأورع، فهو لا يملك ولا يحكم، فقد مات عن مبلغ صغير هو ستون ألف ليرة أي ما يعادل ألفًا ومئتي دولار، كان قد ادّخرها لكفنه وحنوطه!

كان حافظ الأسد يحب أن يظهر بمظهر المشغول بالقضايا الخارجية تاركًا شعبه بين مخالب المخابرات، وعجْزِ رئيس الوزراء الذي تنسب له كل المخازي، مثل مجلس العموم البريطاني الذي يشنّ الحروب على شعوب الأرض، الهند مصر والعراق وأفريقيا وأقاليم في كل القارات، بينما تقضي الملكة وقتها في المنتجعات مع كلابها الثلاثين. ومثل العقيد القذافي قائد الثورة الذي كان يدّعي زورًا أن اللجان الثورية هي الحاكمة، ومثل الخميني المعصوم. صورة الملكة على العملة وصناديق البريد، تذكرنا بحافظ الأسد من ناحية أخرى.

 لقد تعلم  الوريث من بريطانيا أمرا، يمكن تذكر شهادة حذيفة سليم، وهو موظف مخابرات سابق من الأقليات السورية في السفارة السورية في لندن، كان يتعجب من الموظفين في السفارة، فهم لا يعودون من بريطانيا صفر الأيدي، فهم يعودون بالشمعدانات التي تستخدم في العبادة والجنائز، مثل الموظف الزائر كمثل الحاج العائد من مكة بماء زمزم والتمر إلى أن عرف بحقيقة الأمر، فهم يستخدمونها في التعذيب، فالسجانون يجلسون الضحية الذكر عاريًا مقابل ضحية أنثى من أجل الين واليانغ، ويشعلون الشمعة تحتهما إلى أن تشوى مؤخراتهما من الحب العذري. ليس في المملكة تعذيب لشعبها الأبيض ولا الوافد إليها من المستعمرات، فهي "البيت الحرام"، المستعمرات شأن آخر. فخيراتها تتدفق على المملكة، ذكرت الصحافية الهندية "أوستا باتنيك" أن بريطانيا سرقت من الهند، ما يعادل تسعة تريليون جنيه إسترليني توثيقا، والخافي أعظم.

تقاليد صارمة في زينة المُلك: رأينا الملك سعيدًا يوقع على وثائق توليه العرش، ويجلس بحضور نخبة ملكية من رؤساء الوزراء وقوفًا، فلا يصح الجلوس بحضرته، لكنهم ما زالوا يركعون عند السلام عليه، فلمَ السخرية من ركوع أعضاء الحكومة للملك المغربي!

يدّعي مفتي الديار المصرية السابق علي جمعة أن الملكة من آل البيت، كما فعل مروان شيخو عندما خاطب متهدج الصوت حافظ الأسد قائلًا: يا ابن فاطمة الزهراء، فرفع الأسد رأسه، وهو يقول: لبيك لولا تقاليد الرئاسة، إذًا تشارلز والأسد من آل البيت!

ينتقد البريطانيون الملكة ويتسلون بفضائح الطلاق والقتل، وهي تشغل الصحافة مثلها مثل صنم التمر عند الجاهليين، لكن الملكة تأمل ولا تؤكل، وهي أسرة متهمة بالعنصرية دليل ذلك إبعاد ميغان السمراء وزوجها الذي آثر النزوح إلى أميركا هربًا من العائلة وتقاليدها العنصرية الصارمة، وقد تخلص الملك تشارلز أمس وهو يصافح البريطانيين من إفريقي تعثر به، أما حافظ الأسد، فكان زاهدًا في زخارف الدنيا، يقل الظهور والاستعراض، وفي عيد الأضحى انكب شامي على يده يقبلها، فنزعها، لله دره.

يظهر ضريح الرئيس السوري أجلّ وأعظم من نعش الملكة، بل تحول قبر الأسد إلى مزار وحج وبركة، أما الملكة فسرعان ما صارت ذكرى

هذه نظائر أخرى:

الأسد يفضل الملكة الراحلة في كثير؛ طول مدة الجنازة وعدد مشيعيها؛ عشرة أيام بريطانية من غير تعطيل للبرامج التلفزيونية والحياة مقابل أربعين يوما من الحداد السوري التام، ومليونا بريطاني مقابل نصف الشعب السوري.

يظهر ضريح الرئيس السوري أجلّ وأعظم من نعش الملكة، بل تحول قبر الأسد إلى مزار وحج وبركة، أما الملكة فسرعان ما صارت ذكرى.

كلاهما فوق الدستور، لولا أن الشعب البريطاني يلتزم بالدستور الذي لا يتغير، أما دستور سوريا فأكله الرئيس.

لا يمكن السخرية من الرئيس السوري أو معارضته كما يسخر في بريطانيا من الملك، والسبب هو الفرق بين القدسيتين الرئاسية والملكية، فالسورية طارئة ووافدة، والبريطانية راسخة ومتناسقة مع عقائد البريطانيين.

ليس للأسد مستعمرات سوى سوريا ولبنان التي نهبهما نهبًا، ولم يؤثر عن الأسد تقاليد حسنة أو مصانع مثل سكك الحديد في الهند، وفوق ذلك هو رفيق اشتراكي، وملك غير دستوري، وجمهوري شعبي!