حاتم علي.. من النازح المعتر إلى المخرج الفذ

2021.01.07 | 00:06 دمشق

201306050217475.png
+A
حجم الخط
-A

لعل ما يلفت النظر في مجمل الأخبار والتغطيات الإعلامية لوفاة المخرج المتميز حاتم علي هو غياب أية إشارة إلى والدته التي ظهرت على استحياء في صورة يتيمة دون ذكر حتى اسمها. ومجمل التغطية للوفاة والتشييع، ركزت على مشاركة الفنانين زملاء الراحل، وبدرجة أقل ابنه عمر الذي ينتمي أيضا للوسط الفني باعتباره، سار على درب أبيه في الإخراج.

في تقديري هذا الغياب لوالدة حاتم، يحمل تغييبا لقضية أوسع، وهي المنبت الطبقي والاجتماعي للمخرج الراحل الذي وإن لم يظهر في أعماله بشكل واضح أو مباشر، إلا أنه في ظني شكل المحرك الأول لتفكيره، وكان له الدور الأبرز في تشكيل وعيه الخاص لاحقا، والذي قاده للاصطفاف الواعي أو غير الواعي، مع فئة المظلومين والفقراء والمعترين، بشكل عام.

غزيل الحريري، هي والدة حاتم علي والتي لم يرد أي ذكر لها في وسائل الإعلام. وأنا شخصيا أعرفها من واقع أنها وزوجها المرحوم، أحمد علي، والد حاتم، كانا جيران أهلي على امتداد عقود. بداية في قرية صفورية في الجولان المحتل، التي كان يسكنها عدد ليس بالكبير من الناس، وتتبع من الناحية الإدارية لمنطقة فيق في الجولان، وقد محاها الاحتلال عن الخريطة وحولها إلى مزارع للمستوطنين نظرا لخصوبة أراضيها.

تروي لي أمي أن والد حاتم ووالدته كانا يقيمان في صفورية في غرفة عند بيت جدي فلاح والد أمي، وهناك أنجبا حاتم، قبل أن يستقلا في بيت منفصل، ويتطوع والده، كما والدي، رحمهما الله، في "الحرس الوطني" الذي شكله جمال عبد الناصر آنذاك من سكان المناطق الحدودية، لمحاربة إسرائيل.

وليس هذا كل ما يجمع والدينا أنا وحاتم، فقد كانا يحملان الاسم نفسه تماما (أحمد محمد علي)، وهو ما كان يتسبب لهما في مفارقات عدة، خاصة عند تسلم الراتب خلال وجودهما في الحرس الوطني.

وبعد حرب حزيران 1967، والتي احتلت إسرائيل خلالها هضبة الجولان، كان الأردن أولا، ثم محافظة درعا محطة لعائلتينا لبعض الوقت، قبل أن يستقر بهما المقام في منطقة الحجر الأسود على أطراف مخيم اليرموك، جنوبي دمشق نحو منتصف سبعينيات القرن الماضي، والتي كانت عبارة عن أراض زراعية تتبع لبلدة يلدا، فاستقر بها كثير من نازحي الجولان، قبل أن تستقطب لاحقا فئات فقيرة كثيرة من مختلف المحافظات السورية نظرا لقربها من العاصمة، وإمكانية شراء أرض فيها، والبناء فيها تدريجيا.

ومثل كل النازحين، حاولت عائلة حاتم الوقوف على قدميها ومواجهة تحديات الحياة بأيدي عارية، حيث لا مال ولا جاه، فعمل والده في عدة أشغال، قبل أن يستقر به الحال على بيع الخضراوات والفواكه في سوق الحجر الأسود مع زوجته، لتمكين أولادهم من متابعة الدراسة، وابتنيا بيتا متواضعا في المنطقة نفسها.

بطبيعة الحال، كان هذا مدعاة لتشكيل "عقد نقص" لدى البعض تجاه الآخرين، أو لتشكيل حافز للتميز وإثبات الذات عند البعض الآخر، ومنهم حاتم علي من خلال المواظبة على الدراسة والعلم

وظل والدا حاتم يبيعان الخضراوات على "عرباية " حتى وقت ليس بالبعيد برغم ضغوط حاتم عليهما ليمتنعا عن ذلك، لأنهما كانا يريدان العمل وعدم الجلوس في البيت وانتظار مساعدة ولدهما، والذي في الحقيقة لم يقصر تجاههما، واشترى لهما بيتا آخر في الحجر الأسود، وبيت أيضا في بلدة صحنايا، حيث انتقلا إلى هناك لاحقا، وما زالت أمه تعيش فيه حتى الآن مع بعض إخوة حاتم.

هذه المسيرة التي تحمل المعاناة والمرارة، كانت الخميرة التي شكلت وعي ذلك الجيل الذين نجح بعض أبنائه، ومنهم حاتم علي في شق طريقهم نحو أفق أوسع من الإطار الذي صنفهم فيه المجتمع كنازحين مغلوبين على أمرهم من جهة، مع نظرة استعلائية تجاههم كفئة "متخلفة" أو جاهلة ليست على صلة كبيرة بالحياة المدنية، وهو ما ينطبق بهذا القدر أو ذاك على أبناء بعض المناطق الأخرى مثل المناطق الشرقية أو حتى درعا بالنسبة لدمشق. وفي فترة من الفترات، كانت كلمة نازح أو لاجئ (فلسطيني) تطلق كشتيمة بغية الانتقاص من قيمة شخص ما.

وبطبيعة الحال، كان هذا مدعاة لتشكيل "عقد نقص" لدى البعض تجاه الآخرين، أو لتشكيل حافز للتميز وإثبات الذات عند البعض الآخر، ومنهم حاتم علي من خلال المواظبة على الدراسة والعلم، باعتباره السلاح الوحيد المتاح لشق الطريق نحو أفق أرحب، ومع إضافة روح الإبداع، كان لدينا مخرج متميز، قدم في فترة وجيزة نسبيا، ما لم يقدمه آخرون خلال عقود.

 والهدف من هذه الإضاءة هو لفت النظر إلى شريحة مهمشة في المجتمع السوري، وهم النازحون أبناء الجولان المحتل، والذين يزيد عددهم اليوم عن نصف مليون نسمة. وقد عانى هؤلاء من الإهمال حين كان الجولان جزءا من سوريا قبل 1967، وتواصل تهميشهم، بل اضطهادهم بعد النزوح، حيث سكنوا في تجمعات عشوائية على هوامش المدن في مناطق تفتقر الى أدنى الخدمات، بينما يكتفي الإعلام ومسؤولو النظام بالتغني والمتاجرة بقضيتهم. وحتى حين يتم الاحتفاء بالجولان في وسائل إعلام النظام، وربما المعارضة أيضا، فإن هؤلاء يغيبون، ويختزل الجولان بالقرى الدرزية الخمس المحتلة والتي لا يزيد سكانها عن 25 ألف نسمة.

ويكفي أن نلقي نظرة اليوم على واقع الجولان في ظل الاحتلال، حيث يعتبر الوجهة السياحية الأولى في إسرائيل، لندرك أي أرض تم التفريط بها. ويحتل الجولان المرتبة الأولى بين المحافظات السورية من حيث خصوبة التربة وغناها الطبيعي وتوفر المراعي على امتداد السنة. كما تتوافر فيه المياه عن طريق الأمطار والأنهار مثل الأردن وبانياس واليرموك وغيرها، فضلا عن الينابيع والعيون. يضاف إلى ذلك طبعا، الأهمية الاستراتيجية لهضبة الجولان التي يحيطها جبل الشيخ من جهة الشمال، ووادي اليرموك من الجنوب، وتشرف إشرافا مباشرا على الجليل الأعلى وسهلي الحولة وطبريا.