icon
التغطية الحية

جيوغرافيكال: سوريا بلد سحقته الحرب.. رحلة صحفي إلى سوريا المدمرة

2022.07.22 | 18:10 دمشق

الحياة وسط الخراب في حمص - المصدر: جيوغرافيكال
الحياة وسط الخراب في حمص - المصدر: جيوغرافيكال
جيوغرافيكال - ترجمة: ربى خدام الجامع
+A
حجم الخط
-A

بعد زيارة لسوريا؛ كتب الصحفي البريطاني نيك ريدماين عن مشاهداته هناك مقالة جاء فيها:

قبل سنوات عندما ارتوت أديم العراق من الدماء، تحدثت إلى صاحب متجر مثقف في قلب دمشق، فقال لي: "إننا نفضل أن نعيش مع أحزاننا على أن نقبل بوعود الغرب بجلب السعادة، لأننا لا نعلم إن كانت تلك الوعود ستحمل لنا مزيدا من الأسى أم لا"، ثم نظر نظرة توجس باتجاه الشرق، ولم يضف شيئاً بعدها.

بعد مرور عشر سنوات على ذلك، ارتوى أديم سوريا من الدماء هو أيضاً، كما لم يف أحد بالوعود فضلاً عن الخطوط الحمراء التي تم تجاوزها، فقد دمرت مدن عديدة في مختلف أنحاء البلاد، وكذلك آثارها، وفر نحو 6.5 ملايين سوري من بلدهم منذ اندلاع الحرب فيها في آذار 2011، عقب الثورة السلمية التي خرجت ضد بشار الأسد، والتي قتل فيها أكثر من 350 ألف إنسان.

 

الحياة مستمرة في أحد شوارع حلب

حلب

في آذار 2022، قدت سيارتي من بيروت عبر ثلوج جبال لبنان الغربية، لأكتشف كيف تتحمل سوريا مآسيها. على تخوم مدينة حلب، نصب جندي هوائياً لكشف المواد الناسفة على سطح سيارة، فقرأت تلك الصورة بصيغة إيجابية. إلا أن الضابط بدلاً من أن يحمل بندقيته، أبعد ذلك الجهاز بصمت، إذ لعله يعرف بأن تلك الكواشف لن تكتشف شيئاً، حتى ولو كان كرات ضائعة في السوق. لوحنا للجنود متجاوزين فوهات بنادقهم، لننضم لحركة المرور والعابرين في أشد الأوقات ازدحاماً.

تتمسك حلب، المدينة الثانية في سوريا، بالحياة، ففي ساحة سعد الله الجابري، فوق لافتة كبيرة لا معنى لوجودها كتب عليها: "أنا (قلب) حلب"، هنالك علم سوري كبير يتمايل مع النسيم. وقبالة تلك الساحة، ثمة صورة لبشار الأسد الذي حكم البلاد منذ عام 2000 وهو ينظر إلى المكان من صورة ضخمة علقت له، إذ في سوريا يمكنك أن تدخل في مسابقة لعد صور بشار.

كانت آخر مرة زرت فيها سوريا في تشرين الثاني 2011، وذلك عندما دخلتها بالسيارة من الحدود التركية، وقتها وصلتني رسائل ترحيب من وزارة السياحة السورية على هاتفي الجوال، وكان التحدي الأكبر وقتها هو الزحام الكبير في حلب، ونظام حركتها الدفاعي ذو الاتجاه الواحد الذي صمم بكل ذكاء. ولكن في غضون ثلاثة أشهر، اتخذت المظاهرات ضد النظام مظاهر عنيفة، وذلك عندما استعانت قوات الأمن بالقوة لسحق المعارضين. تلا ذلك معركة حلب، التي قتل فيها 31 ألف إنسان، إذ انخرطت جماعات الثوار وقتها في النزاع، وعلى رأسها الجيش السوري الحر، وهو عبارة عن فصيل كبير أسسه ضباط من القوات المسلحة السورية، وكان هدفه إسقاط النظام. ولكن وسط كل تلك الفوضى، أعلنت جماعات إسلامية مقاتلة، بينها تنظيم الدولة، سيطرتها على أجزاء من البلاد، فتدخلت دول أجنبية في الأزمة، وأخذت تمد تلك الجماعات بالأموال والسلاح والمقاتلين.

في مختلف بقاع سوريا، يبدو أن الدمار يتبع لتوجهات طائفية واجتماعية-اقتصادية مختلفة. إذ تعاني مناطق الطبقة العاملة السنية أكثر من المناطق العلوية الموالية الأكثر ثراء، وهذا ما نجده إلى حد كبير في حلب الشرقية، التي لا تفصلها عن ساحة حلب المركزية سوى مسافة قصيرة، إذ هناك تشهد الشوارع المهجورة المليئة بالركام وفوارغ القذائف المنفجرة على القصف العنيف، كما تكشف الطوابق العلوية للأبنية التي أصبحت مفتوحة بسبب القصف عن مناضد تراكم فوقها الغبار ومقاعد مكسرة، وأسلاك الإنارة وورق الجدران في تلك البيوت، أما في مناطق أخرى، فقد استحالت كل تلك الأمور إلى ركام.

تحول سوق المدينة التاريخي في حلب إلى منطقة متنازع عليها خلال الاقتتال، ولذلك اندلعت فيه نيران خرجت عن السيطرة، كما انهارت الأسقف، واستحالت محال تناقلتها الأجيال على مدار أكثر من 800 عام إلى رماد. خلف تلك الجدران المسودة، بدأت عملية إعادة الإعمار إلا أن تلك المهمة كبيرة جداً. وبين المحال الأخرى الفارغة أو المدمرة، بقي متجر لبائع قماش مفتوحاً، واسمه جابر، وعمره 56 عاماً، لكنه يبدو أكبر من عمره بكثير، قد حدثنا عما جرى فقال: "إن بقيت في البيت فستجد زوجتي فرص عمل باستمرار، لكني عملت في هذا السوق طوال 43 عاماً، وقد غادر البعض السوق ليعملوا خارجه، أما البقية فقد تركوا البلد".

 

جموع في سوق القيمرية بدمشق

 

بالعودة سيراً على الأقدام إلى ساحة سعد الله الجابري، توقفت عند أحد المتاجر التي تبيع المشروبات، فلم أجد بيرة نسبة الكحول فيها تحت 8% إذ غالبيتها كانت نسبة الكحول فيها قريبة من 14%، تلك النسبة التي تعبر عن حجم اليأس. ولهذا تساءلت عن السبب الذي يدفع لتقديم كل تلك المشروبات ذات المفعول القوي للغاية، فرد علي صاحب المتجر: "إنها ليست كذلك، بل إن الوضع عادي" سألته عن عمله فقال: "لم أقابل سياحاً طوال عشر سنوات، ولذلك أصبحت أنت أولهم. أما بالنسبة لما يحدث هنا، فلا أعتقد أن الأمور ستتحسن نهائياً"، ورفض بعد ذلك الاسترسال في الحديث عن أي شيء آخر، إذ في سوريا هنالك دوماً أشخاص يراقبون ما يجري، وآخرون يستمعون، وغيرهم يقوم بنقل الأخبار. في نهاية الأمر، اشتريت لنفسي بيرة.

سرت في ذلك الشارع، فقابلت شاباً يبيع صابون الغار الذي تشتهر به حلب، ثم أنشأ يتغنى بتاريخ الصابون الطويل، بعدها تحدثنا سوية فقال لي: "كنت أعمل في تصميم البرمجيات، وليس من الصعب العثور على عمل في هذا المجال، ولكن من الصعب أن تجد عملاً مربحاً، وذلك لأن متوسط الأجور اليوم يعادل 50 دولاراً بالشهر". سألته عن الناس وكيف يتدبرون أمورهم، فقال: "في سوريا ثمة مثل يقول: لنكبس على الجرح ملح، لذا إن استطعت السفر فسأسافر، وذلك لأننا ننفق كل ما لدينا كل شهر". سألته إن كانت الأمور ستتحسن، فرد: "من خلال ما رأيته، لا، لا أظن أنها ستتحسن". لاحظت عندها اقتراب شخص منا واهتمامه لما يدور بيننا، فأخبرت من أتحدث إليه بأني كنت أتمنى أن يطول الحديث معه، فأعطاني قطعة صابون وهو يقول: "وأنا كذلك يا صديقي".

كنت أتوق لزيارة فندق بارون، ملك حسن الضيافة الحلبية منذ غابر الزمان، وقد برز اسمه كثيراً في تاريخ سوريا، إذ كان من بين نزلائه لورانس العرب وآغاثا كريستي والملك فيصل وجمال عبد الناصر. رغبت بالتحدث إلى آرمين مظلوميان، المدير الوقور صاحب النكتة اللماحة في هذا الفندق، والذي ساعدني على ركن سيارتي في باحة الفندق في عام 2011.

كان باب فندق بارون مفتوحاً، وفي الداخل، أخذت امرأة كبيرة في السن تتحدث إلى رجل يرتدي بزة رسمية، ولدى سؤالها ردت علي: "سأتحدث إليك بعد هنيهة، لأني برفقة السفير الآن"، فسألتها عن أرمين على عجل، فهتفت: "أرمين؟ لقد مات"، وسارت مبتعدة دون أي انتباه. أما في بار الفندق، فقد كشف الجص المتساقط عن الأعمال الحجرية فيه. كان هنالك بعض الزبائن الجالسين فوق مقاعد جلدية مهترئة، وهم يحملون بيرة من ماركة أفاميا، التي تصل نسبة الكحول فيها إلى 4.5% أي أنها ضمن حدود النسبة الحضارية.

فجأة دخلت روبينا زوجة أرمين، فعرفتها على الفور، وعندما سألتها قالت: "أجل، لقد مات أرمين، إذ قضى ذلك المسكين بنوبة قلبية في عام 2016 فقد كان يمضي وقته على الشرفة الواسعة ليلاً ونهاراً مهما كان وضع الطقس، ولم يكن يدخل أبداً". ثم اقتادتني إلى غرفة تحولت إلى مستودع للآثار علقت على أحد جدرانها صورة للأرمن الكاثوليك، وقالت: "لقد تعرضنا للنهب، وتلك هي الأشياء التي تمكنا من استعادتها وإخراجها من القبو". ثم أخذت تمر عبر الصور التي تحكي تاريخ الفندق بحماسة.

سألتها عما حدث منذ آخر زيارة لي فقالت: "لا أريد الخوض في السياسة، ولكن كان هناك تحريض كبير، إذ بدأت الأمور وتطورت لشيء كبير لدرجة لم يعد معها بالإمكان إطفاء تلك النار. كنا نتمتع بالحرية والديمقراطية وكل شيء، ولم نكن بحاجة لكل هذا... أصابتنا سبع قذائف هاون، أي أننا كنا مستهدفين، سبع، تخيل! ومنها واحدة ضربت هنا" وأشارت إلى فجوة في الأرضية الحجرية، ثم تابعت: "لكنها لم تنفجر، ثم أتى الجيش وأخرجها من هنا. كما استهدفت الأجزاء القديمة من المدينة، لأنهم كانوا يريدون لتاريخ سوريا أن يمحى، حتى يقيموا سوريا جديدة". سألتهما عمن تقصد بـ(هم)، فردت: "من برأيك؟ إنهم كما يقول الأميركان ثوار معتدلون، لكن إن أردت قول الصدق فسأصفهم بالإرهابيين". حاولت أن أستوضح المزيد منها، فاعترضت قائلة: "كف عن ذلك وابحث عن الموضوع أكثر واطرح بعض الأسئلة"، فأخبرتها بأني فعلت كل ذلك، إلا أن الجميع رفض أن يجيب على أسئلتي.

قبل ذلك، كنت قد سألت المرشد الذي رافقني، واسمه تيسير، عن حرية الإعلام، وحدثته عن المملكة المتحدة حيث توجد صحف تؤيد رئيس الوزراء وأخرى لا تؤيده، وهل ثمة أمور كهذه في سوريا، فرد: "كلا، فمعظم الناس ليس لديهم المال لشراء الصحف، ولهذا يستخدمون هواتفهم، إلا أننا نعرف كل شيء من خلال الوقائع". بيد أن الدولة في سوريا تسيطر على جميع وسائل الإعلام، سواء المطبوعة أو الإلكترونية، أي أن جميعها مخترقة، ولكن عندما لا يتم فرض قيود على المحتوى المحلي، فإن الرقابة الذاتية تصبح هي المعيار. وبالنتيجة لم يعد أحد يصدق ما تقوله الدولة، بل لم يعد هنالك أحد يصدق أي شيء.

 

قلعة حلب التاريخية

بعد ذلك توجهت إلى حي الأرمن بحلب الذي أقمت فيه خلال زيارتي الأولى لسوريا. تبعت تيسير وهو يدور حول القلعة التاريخية بكل حماسة، لكنه نادراً ما كان يتطرق للأحداث التي تجري في الوقت الراهن. خرجنا من زقاق ضيق إلى النور الساطع القادم من أرض خربة مفتوحة، فقال لي تيسير وهو يشير إلى عدد من أكوام الركام التي لا يمكن لأحد أن يميز بينها: "كان بيت وكيل هنا، وكان هناك كثير من الفنادق الصغيرة في هذا المكان مثل حوش سي سي ودار مارتيني... جميعها اختفت". بدا تيسير وكأنه يريد أن يتحدث على غير عادته، حيث جلس فوق بعض الأساسات الإسمنتية المكسورة، وقال: "خلال عشر سنوات لم أحظ بعمل إلا قبل ستة أشهر. لقد صرفت كل مدخراتي، وخسرت مالي في مشروعين تجاريين"، ثم أمسك رأسه بيديه وقال: "إن العقوبات أسوأ من الحرب، إذ رأيت أشخاصاً يأكلون من القمامة، وعائلات كان أمر المال لا يقلقها، وكانت تركب سيارة جميلة، إلى أنهم تحولوا إلى متسولين، أي أن الوضع مريع". لم تكن تلك رسالة بثها النظام بين الناس، بل أتت من تجربة شخصية بحتة.

بقيت قلعة حلب أهم معلم تاريخي في المدينة، إذ يعود بناؤها للقرن الثاني عشر للميلاد، أما التلة المحصنة التي بنيت عليها فتعود للألفية الثالثة قبل الميلاد. إلا أن قوات النظام تمركزت في ذلك الموقع قبل فترة قريبة، حيث أقاموا مواقعهم محل مواقع الجيش السوري الحر. وفي صباح ذلك اليوم المشمس رأيت طوابير لأطفال المدارس تتجول فوق جسر الخندق الذي يصل إلى حصن القلعة، التي رأيت عند مدخلها علماً ضخماً لسوريا وصورة كبيرة لبشار. كان الأطفال في سن الثانية عشرة، أي أنهم عاشوا جل حياتهم خلال الحرب.

نجت هذه القلعة من تلك العاصفة، بالرغم من أن نوافذها بقيت مغلقة بالحجارة، بيد أن المشهد عند الأسوار يسرد حكايتين، إذ بعد الجسر المعلق تنتشر مقاه كثيرة تغص بالزوار، وتبدو أكثر ازدحاماً مما كانت عليه من قبل، ولكن، وأنت قريب بدرجة تكفي لسماع أحاديث الثرثرة والضحكات، ترى محيط الدمار الناتج عن قذائف المدفعية والقصف الجوي. إذ تحول فندق كارلتون القلعة التاريخي إلى ذكرى، بعدما فجره مقاتلوا الجبهة الإسلامية إثر تحوله لثكنة عسكرية تابعة لجيش النظام، بينما وقفت أبنية أخرى مضعضعة، بعدما أحرقتها النيران، لتخلق حالة تنافر مع لون السماء الزرقاء.

 

أعمال إعادة البناء في موقع سوق المدينة بحلب

تدمر

خرجت من حلب وتوجهت جنوباً لأمر بمحافظة إدلب، فشاهدت أبنية تمتد على طول كيلومترات من الطريق، بعضها أصابته طلقات أعيرة نارية وبعضها تهدم بسبب القصف، إلا أنها جميعاً أصبحت خاوية. وغرباً، ماتزال مدينة إدلب معقلاً لطيف متفاوت من الإسلاميين المعارضين للنظام. إذ في أواخر عام 2016، أقامت عملية أستانا التي شاركت فيها روسيا وتركيا منطقة عازلة حول تلك المدينة، ومنذ ذلك الحين سرى وقف إطلاق النار بشكل غير كامل.

يصل الطريق الصحراوي الممتد شرقاً إلى تدمر، ذلك الموقع الأثري الشهير في سوريا، في رحلة يشوبها قلق كبير حيال التزود بالوقود، إذ قال لي سائق السيارة التي ركبت فيها: "إن الوضع هكذا، وذلك لأن الوقود يأتي على شكل حصص، حيث يحصل المرء على عدة ليترات بهذا السعر، وكلما زادت الكمية ارتفع السعر، وحتى إن توافر لديك المال لن تجد الوقود لديهم، ولكن إن ضاعفت السعر المرتفع أصلاً فسيوفرونه لك".

ثمة بضعة معالم مهمة تميز ذلك الطريق، إذ هنالك الفرقلس وهو مشروع تجاري مخصص للغاز والصناعات البتروكيماوية مشهور محلياً  على الرغم من صغره. وقد أخبروني بأن أهم احتياطي للنفط أصبح خارج سيطرة النظام وبأن "الأميركيين يسرقونه".

توقفنا عند مقهى ينتشر فيه الذباب والقذارة على قارعة الطريق، حيث كانت مجموعة من الجنود تملأ سيارتها بالوقود باستخدام قوارير بلاستيكية، فسألهم السائق عن مصدره فردوا: "من تدمر، لكنه غالٍ". ثم خرج أجنبيان أشقران من مركبة أخرى، إذ كانت ناتالي ويوري في طريقهما إلى تدمر.

تحدثت ناتالي عن أمور كثيرة لكنها فارغة، أما يوري فلم ينبس ببنت شفة طوال الوقت. وفي مكان آخر رأيت ماركة سيريلاك في المتاجر، واكتشفت بأن قدوم "السياح" الروس لم يعد أمراً استثنائياً.  

وبعد عدة كيلومترات، رأيت شاحنات لرادارات تعود للحقبة السوفييتية في موقع مرتفع غريب. ثم لاحت لي على الفور قاعدة التياس الجوية، ورأيت قاذفات القنابل من نوع سوخوي المزودة بذيلين وقد موهت باللون الأزرق بالقرب من المدرج. فقد شارك سلاح الجو والجيش الروسي مع مرتزقة مجموعة فاغنر والطائرات الحربية الأميركية في المعركة التي خاضها جيش النظام للسيطرة على تدمر، وعلى مدينة تدمر الحديثة وما حولها، وكذلك على حقول الغاز الطبيعي في منطقة الشاعر.

إلا أن الحرب ليست بشيء غريب على تدمر، وذلك لأن تاريخها يدور حول سلسلة من التدمير وإعادة البناء، إلا أن التدمير الذي شهدته تدمر بكل عمى بصيرة خلال الفترة التي احتلها فيها تنظيم الدولة، أي ما بين 2015-2017، يخلق داخل النفس حزناً من نوع آخر. فقد تعرض مدير آثار ذلك الموقع وهو شخص متقاعد عمره 83 عاماً، واسمه خالد الأسعد، للتعذيب ثم قطع رأسه أمام الملأ، بعدما كرس أكثر من 40 سنة من حياته للعمل على خدمة آثار تدمر.  يقول الصحفيون بأن الأسعد رفض الكشف عن موقع الكنز الموجود في تدمر، إلا أن الغريب في الأمر أن من قتلوه لم يعرفوا أين يقع ذلك الكنز حتى الآن.

ومن بين الخراب الذي حل، تكتشف بأن التدمير الذي لحق بمعبد بل ومعبد بعل شامين والقبور البرجية التي تم الحفاظ عليها طوال كل تلك السنين، لا يمكن أن يعوض أو أن يتم إصلاحه. إلا أن كثيرا من المؤامرات انتشرت حول ذلك، إذ ثمة من يقول: "من أعطى تنظيم الدولة 10 آلاف طن من المتفجرات حتى يدمروا المعبد؟ من برأيك؟ إنها الولايات المتحدة بكل تأكيد، إذ من غيرها لديه كل تلك الأموال؟"

من بين صفوف الأعمدة التدمرية الكبيرة نظرت إلى القلعة العربية التي تشرف على الموقع، والتي يحتلها اليوم جنود روس على ما أعتقد. وفجأة علق شيء بحذائي، فاكتشفت بأنه علبة ذخيرة مستهلكة. أخذت أمسك الرمل بأصابعي، فجمعت أكثر من عشرة قطع أثرية يمكن أن تضاف لسجل الآثار هناك. لقد بقيت تدمر عظيمة وإن توافر لها ما يكفي من الوقت والمال فسيتم إصلاح الكثير من الدمار الذي لحق بها.

 

معبد بل عقب تدمير تدمر على يد تنظيم الدولة

حمص ودمشق

في طريقي إلى دمشق، توقفت عند حمص. وعندما طالعني مشهد المدينة التي تبدو وكأن قيامتها قد قامت، تذكرت الصحفيين ماري كولفن وريمي أوشيليك اللذين قتلا بقصف مدفعي هنا في شباط 2012. ثم حكمت المحكمة الأميركية بأن وفاتهما أتت نتيجة لقصف من قبل النظام. إلا أن تيسير ركز على أحد الأبنية التي أصبحت قيد إعادة الإعمار، وهو جامع خالد بن الوليد، ثم فتحنا حديثاً طويلاً حول تاريخ ذلك المسجد وأهميته الدينية. سألت عن السبب الذي يدفع الدولة لترميم المسجد وليس البيوت، فرد تيسير: "إن الأموال تصل من الشيشان، إذ لعل إحدى الجاليات الشيشانية كانت تقيم هنا". أي أن رجل موسكو في غروزني (عاصمة الشيشان)، أي الحاكم المستبد رمضان قديروف هو من يدفع تلك الفاتورة بكل تأكيد من خلال مؤسسة قديروف المشبوهة، والتي يقال إنها تمول من خلال تبرعات تفرض على الأشخاص العاديين من الشعب الشيشاني. يعود تاريخ العقوبات الأميركية والأوروبية إلى ما قبل الحرب السورية إلا أن تلك العقوبات شددت بسببها. وهنالك قيود تحظر الاستثمار في عملية إعادة الإعمار إلى أن يتم التوصل إلى تسوية سياسية مناسبة للنزاع في سوريا، وهو أمر لا يرجح أحد حدوثه حالياً.

من خلال فاصل غير مرئي، يظهر قسم آخر من حمص يعج بالناس والمركبات. وبالطبع فإن من اختاروا غض الطرف سياسياً وفعلياً عما يجري، بوسعهم أن يتجاهلوا، بل حتى ينسوا، بأن حرباً قد وقعت هنا.

أما في دمشق فقد كان سوق الحميدية يعج بالناس. ولكن في عام 2011، كان السوق مهجوراً، إذ بما أن الاقتصاد السوري المتردي يعاني من تضخم هائل، لذا فإن تأمين الاحتياجات بأرخص الأسعار بات الهم الوحيد لغالبية السوريين، إذ يقدر البنك الدولي بأن الناتج القومي الإجمالي في سوريا قد انخفض بنسبة 50% خلال الفترة ما بين 2010-2019، فانتشر الفقر المدقع، الذي كاد أن يختفي من تلك المدينة، بين نصف سكانها. إلا أننا لا يمكن أن نعزو كل شيء للحرب مباشرة، وذلك لأن الأزمة في لبنان الذي كانت مصارفه تستقبل أموال السوريين، قد أثرت على سوريا، ناهيك عن السقوط الحر لليرة السورية من 46 ليرة مقابل الدولار في 2011 إلى 2500 ليرة مقابل الدولار في 2022، هذا حسب السعر الرسمي، وذلك لأن سعر الصرف يصل إلى 3900 ليرة في السوق السوداء.

ولكن في تلك الأمسية، وتحديداً في باب شرقي الذي ينتهي عنده شارع يعرف بالطريق المستقيم المذكور في الإنجيل، يبدو بأن هنالك بعض الدمشقيين الذين لديهم كثير من المال ليصرفوه. يعتبر نارنج أفضل مطعم في دمشق، إذ إن بشار نفسه من رواده. وبما أننا من الأجانب الأثرياء الذين يحملون الدولارات، لذا فقد حجزنا طاولة في ذلك المطعم المزدحم، وسرعان ما وصلت مجموعة من الأطباق، تبدأ بالكباب مع صلصة الكرز، وتصل إلى البرغل باللحم، والكفتة باللبن، والكبة وأنواع عديدة من الفتات، ثم قدموا لنا زجاجتين من النبيذ اللبناني الجيد، وبعدها أتت الفاتورة بقيمة 374 ألف ليرة سورية، وبعد تقسيمها على خمسة أشخاص، أصبح نصيب الواحد منا أقل من 20 دولاراً، إلا أن ذلك يعادل نصف راتب شهري لدى معظم السوريين.

بالعودة من باب شرقي، اكتشفت العشرات من البارات والمقاهي الصغيرة التي افتتحت هناك. إذ بعدما أمضيت فترة في بيروت، لم أتوقع من دمشق أن يكون فيها حياة ليلية صاخبة، لكني اكتشفت العكس. طلبت مشروباً، وطلب أحد مرافقي أحد الكوكتيلات الشهيرة في هذا البار، فعاد النادل بسرعة حاملاً موسكو ميول وعلامات الفخر بادية عليه، ولهذا تمسكت بالبيرة التي طلبتها.

تناولت طعام الغداء في اليوم التالي في بيت أسرة حمصية سورية، بعدما تذرعت بحجة لذلك. وهذه الأسرة نزحت من حمص وسكنت دمشق، وعن ذلك تخبرنا فهيمة فتقول: "تركنا كل شيء وخرجنا بالثياب التي علينا، وبدأنا هنا من جديد. ستظل حمص موطني، لكنها تدمرت، ولا يتوافر المال لإعادة بنائها".

من الأمور المبهجة اكتشافي لانتماءات سياسية مختلفة داخل تلك الأسرة، إذ قال ماجد: "لقد باع الأسد البلد للروس"، فقاطعه حميد بالقول: "95% من السوريين مع بشار، إنه المال القادم من الخليج والأميركيين وربما البريطانيين أيضاً، فهم يريدون تغيير النظام".

إلا أن الأفعال أصدق من الأقوال، وذلك لأن الابن الوحيد لدى تلك الأسرة يقيم في ألمانيا حالياً، إذ تخبرنا عنه فهيمة فتقول: "سافر عندما كان في الساسة عشرة من عمره، وكلفته الرحلة ثلاثة آلاف دولار أميركي، إذ سافر في البداية إلى تركيا، ثم ركب القارب إلى اليونان، ومنها سار إلى صربيا، ولا أظن أنه سيعود، فهو لاجئ، ولا يمكنه العودة، ومن الأسلم له أن يبقى هناك".

من خلال حديثنا تبين بأن معظم من سافروا بسبب الحرب السورية ليست لديهم رغبة شديدة بالعودة إليها، وذلك لأن أضعف طيف من الانتماء لتوجه مناهض للنظام قد يودي بصاحبه إلى السجن. أما بالنسبة للشبان في سن العسكرية، فمن المحتمل أن يصبح هؤلاء جنود احتياط أو مجندين في الجيش لفترات تمتد إلى أجل غير مسمى. كانت إحدى بنات تلك الأسرة تتعلم الألمانية، ولهذا علق حميد على ذلك بقوله: "إنها هجرة الأدمغة، ولكننا جميعاً نحب رئيسنا بشار الأسد وكل ما يفعله صحيح 100%".

 

إحدى صور بشار الأسد

بعد ذلك سرت في باحات مزروعة بأشجار الكرز التي ذكرني زهرها بربيع دمشق، تلك الفترة القصيرة التي انتشرت فيها دعوات مطالبة بلبرلة البلاد عند بداية الفترة الرئاسية لبشار الأسد. توقفت عند الجامع الأموي، رابع أقدس مكان في الإسلام، والمكان الذي استقر فيه أحد الرؤوس الأربعة ليوحنا المعمدان. وبالرغم من تجديده في القرن العشرين، إلا أن المسجد ظل من بين أجمل الأماكن في الشرق الأوسط. وعلى الرغم من الأعداد الغفيرة من المصلين التي تدخل وتخرج منه، إلا أن اتساع الجامع يخلق جواً يساعد على التأمل بهدوء. ارتديت حذائي بعد زيارة قصيرة، وتوجهت نحو معلم قريب آخر، وهو قهوة النوفرة التي سواء أكانت هي الأقدم في تلك المدينة أم لا، إلا أنها تقدم قهوة لذيذة بالفعل.

في الوقت الذي رسخ فيه نظام الأسد سيطرته على معظم المناطق الواقعة غربي البلاد، بمساعدة مقاتلين من روسيا وميليشيا حزب الله اللبناني، بقيت الأسباب الأساسية للنزاع قائمة. إذ في مناطق أخرى، تسيطر أطراف عسكرية مختلفة على المشهد، ومنها عساكر من تركيا وميليشيات قسد، والثوار الإسلاميون، وجنود أميركيون وغيرهم. أي أن الوضع بقي ديناميكياً، أما النتائج التي يمكن أن تترتب على أي حملة عسكرية تركية جديدة فلا يمكن لأحد أن يتوقعها.

بقيت أمامي رحلة مقدسة أخيرة كان علي أن أقوم بها في فيء الجامع الأموي، وهي زيارة لمتجر حسان، إلا أن نوافذه كانت مظلمة وبابه مقفلاً، ولهذا خلت أنه في إجازة، ثم تذكرت كيف اشتريت منه قطعة خزفية براقة كتب عليها: الوقت هو الحياة، حيث قال لي وقتها: "إن الناس يقولون بأن الوقت من ذهب لكني لا أوافقهم الرأي". إلا أن الإحساس والمعنى الذي تحمله تلك العبارة أعجبني يومها. بيد أني اكتشفت بأن حساناً كان عنده بعد نظر. تمنيت أن أعرف عنه شيئاً، إلا أن متجره كان يخلو من أي أثر للحياة، إذ لعله قد عرضه للبيع أو أي شيء من هذا القبيل.

المصدر: جيوغرافيكال