"جهنم" لبنان لم يبدأ بعد

2020.09.27 | 00:22 دمشق

21cce49db866663e88046f45d751b725.png
+A
حجم الخط
-A

من المنتظر أن يعجز مصرف لبنان المركزي في غضون شهر عن تأمين الدعم بالعملة الصعبة لاستيراد المواد الأساسية، كالقمح والمحروقات والدواء. ومن المتوقع، نتيجة لذلك، أن ترتفع الأسعار على نحو جنوني في بلد خسر فيه أي موظف أكثر من 70 في المئة من قيمة راتبه منذ ما يقارب السنة، حين بات سعر الدولار يوازي ثمانية آلاف ليرة (كان سعره 1500 ليرة). أيضاً من المتوقع، بعد تعذّر تشكيل حكومة جديدة، والسقوط العملي للمبادرة الفرنسية، أن ينفلت سعر الدولار أكثر بما يجّر مزيدا من اللبنانيين إلى هوة الفقر والعوز.

هذا، ومن المتوقع أن تزداد العزلة التي يعانيها لبنان، سياسياً واقتصادياً، على نحو يماثل حال قطاع غزة مثلاً أو الحكومة الموالية لطهران في صنعاء. وعلى الأرجح، ستأتي حزمة عقوبات أميركية جديدة تطول حزب الله وحلفاءه، بما يزيد من متاعب الاقتصاد والقطاع المصرفي المنهك أصلاً.

ولبنان المنهار، خصوصاً بعد تفجير المرفأ، يعاني من استعصاء

بغضون أشهر قليلة انتقل الحد الأدنى للأجور (راتب العامل البسيط) من 450 دولارا أميركيا شهرياً إلى ما يقارب 84 دولاراً فقط لا غير

سياسي يمنع أي أمل بإجراء أي إصلاح مطلوب لإغاثة اللبنانيين ودولتهم، بما يفاقم من معضلات توفير الكهرباء أو تأمين معظم الخدمات الضرورية، في الصحة والتعليم والنقل والسكن والغذاء.. أي أنه اليوم "دولة فاشلة"، بالمعنى الحرفي للكلمة.

بغضون أشهر قليلة انتقل الحد الأدنى للأجور (راتب العامل البسيط) من 450 دولارا أميركيا شهرياً إلى ما يقارب 84 دولاراً فقط لا غير. وهذا الحدث الكارثي نقل أكثر من 55 في المئة من اللبنانيين إلى خانة الفقر والفقر المدقع.

لكنها ليست مجرد "أزمة اقتصادية". إنها أولاً وأخيراً مشكلة نظام سياسي تم تدميره على نحو منهجي ومثابر. إنها مشكلة اختطاف "النظام" وتعطيله، والاستيلاء على القرار والحكم والإدارة. فمنذ أن قرر حزب الله أن يرث نظام الأسد في فرض "الوصاية" على لبنان، كان واضحاً أن مسار البلاد سيتجه ولو ببطء إلى ما يماثل السيناريوات التي شهدناها في الأمكنة التي تزدهر فيها "الممانعة" ويهيمن عليها النفوذ الإيراني: مزيج من العنف والفساد، وتغليب الدويلة المسلحة على الدولة.

ويترافق عادة هذا المسار التدميري مع ارتفاع منسوب العدوانية تجاه الخارج، والغرب تحديداً. ويتحول البلد إلى جغرافيا من عزلة وضيق وفوضى وإفقار.. وأحياناً كثيرة مع انفلات أمني وصدامات طائفية وفتن مذهبية، تستجلب أنماطاً متعددة من الحروب.

وفي حقبة البؤس التي تحل على هذه المجتمعات السيئة الحظ، يستثمر المسببون به نقمةَ الناس وغضبهم ويأسهم وتمزق حياتهم الاجتماعية، ليكونوا خزاناً بشرياً عدوانياً ناقماً على "العالم الذي يتآمر عليه". وتدخل البلاد في دوامة الحرب الأبدية ضد الآخر الصهيوني الإمبريالي الاستكباري الكافر.. إلخ. وعلى هذا المنوال، تستحيل الحياة السوية والدولة الطبيعية والمجتمع العادي. كما يستحيل الاقتصاد والمال والتعليم والطبابة والأمان.. وهكذا، وكما قال رئيس جمهورية لبنان ميشال عون، يذهب البلد إلى "جهنم".

والمدهش أن "الولي الفقيه" للجمهورية اللبنانية المتهالكة، حسن نصر الله، الذي دعا اللبنانيين إلى جهاد الزراعة درءا للجوع، في واحدة من خطبه المتهافتة، ودعا إلى محاربة الفساد وما يشبه ذلك، كان يدري تماماً أن مبادرة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، التي أطلقها في أول أيلول الحالي، هي آخر فرصة متاحة لإنقاذ لبنان، وإجراء سلسلة من التدابير تتيح منع الانهيار.. ومع ذلك، قرر نصر الله أن "يفجّرها"، ويرغم اللبنانيين على الوقوع في حفرة اليأس. فقائد الميليشيات وفائض قوتها، المستولي على القرار السياسي بالتهديد والوعيد، اختار رهن لبنان للسياسات الإيرانية واستخدامه في الصراع مع الولايات المتحدة الأميركية، عدا أن حزب نصر الله اختطف لبنان وربطه بمصير سلاحه وتنظيمه العسكري، كما يفعل الأشرار حين يلجؤون إلى استخدام الدروع البشرية.

وفي الأثناء سيواصل هذا الحزب وحلفاؤه سياسة المكابرة والتنصل من مسؤولية الجريمة التي تُرتكب بحق اللبنانيين يومياً. فإعطاب النظام الديموقراطي وتشويه الأعراف السياسية وتجاوز الدستور، مرفقاً بإشاعة الاعتصاب الطائفي والاستنفار المذهبي، وكسر التوازن السياسي بين مكونات البلد.. وأخيراً، قمع الانتفاضة الشعبية وترهيب المجتمع المدني، أفضى كل هذا إلى فقدان الدولة أي قدرة على إدارة البلاد، فيما المؤسسات الدستورية التي تتيح التغيير أو التحول أو إصلاح الحال الاقتصادية، موقوفة أو ممنوعة عن ممارسة دورها. فلا رئيس الجمهورية الذي فرضه الحزب عنوة، ولا مجلس النواب الذي يمسك بمفاتيحه حليفه نبيه برّي، ولا مجلس الوزراء المستقيل والضعيف، يستطيعون إقرار ما يجب إقراره. عدا عن أن آليات تغيير السلطة إن عبر الاحتجاج الشعبي أو بانتخابات نيابية مبكرة، محرّمة تحت تهديد السلاح والتلويح بالحرب الأهلية.

"جهنم" لبنان لم يبدأ بعد. فمن الآن وصاعداً، أي بعد سقوط المبادرة الفرنسية، سيشهد لبنان نمطاً من الانهيارات والحصار والعقوبات والإفلاس والفقر والفوضى، أشد بكثير مما شهده في غضون السنة المنصرمة.

فـ"الممانعة" لا يمكنها الازدهار والتنفس إلا في جحيم الكبريت والبارود والموت.