جنوبستان وشمالستان التركية فيلم بروباغندا نموذجاً

2021.01.19 | 00:03 دمشق

propaganda-filmi.png
+A
حجم الخط
-A

إذا كان فيلم "الحدود" للمبدع السوري محمد الماغوط (1984م) قد صور مأساة الوحدة العربية في جنوب سوريا بطريقة كوميدية عندما قسم البلاد إلى شرقستان وغربستان، فإن المبدع التركي سنان شاتين في فيلم "البروباغندا" (1999م) يتناول تراجيديا الحدود الشرقية الجنوبية لتركيا مع سوريا بالطريقة الكوميدية ذاتها أيضاً عندما قسم البلاد إلى جنوبستان وشمالستان دون أن يذكرهما بشكل صريح طبعاً.

لا يمكن قراءة فيلم "بروباغندا" لمخرجه وكاتبه ومنتجه سنان شاتين، دون الخوض في المضامين الرمزية الإنسانية والسياسية والاجتماعية وحتى التاريخية التي سعى إلى إيصالها لمشاهديه، وعلى الرغم من أن الفيلم يروي أحدثاً تاريخية مر بها والد مخرج الفيلم وكاتبه الذي أهداه هذا الفيلم كما تقول شارته، والتي كتب فيها أيضاً أنه يتناول أحداثاً واقعية جرت عام (1948م) على الحدود الشرقية التركية.

ولد فيلم "بروباغندا" التركي الذي يؤكد الروابط الأخوية التاريخية بين العرب والأتراك، واستحالة الفصل بينهما مهما كانت أهداف الأجندة أو البروباغندا العسكرية

قبل الأزمة السياسية (عام 1998م) بين تركيا والنظام السوري، والتي كان سببها دعم الأخير لحزب العمال الكردستاني PKK، الذي تصنفه تركيا حزباً إرهابياً، أصدرت الدراما السورية مسلسل إخوة التراب (الجزء الأول عام 1996)، الذي ينطلق من وسم الدولة العثمانية بالاحتلال من خلال استعراضه لصور الوحشية والظلم الذي مارسه العثمانيون، مع التأكيد على أن صفة الاحتلال تقدمها أيضاً المناهج الدراسية السورية (كتاب التاريخ مثلاً)، كما رسخ الجزء الثاني في هذا المسلسل (عام 1998م) صفة الاحتلال للعثمانيين في ذروة تلك الأزمة السياسية التي انتهت - بوساطة مصرية - باتفاق سري ينص على توقف النظام الأسدي عن دعم هذا الحزب بكل الوسائل السياسية والعسكرية والتقنية.

في أجواء الأحداث السابقة ولد فيلم "بروباغندا" التركي الذي يؤكد الروابط الأخوية التاريخية بين العرب والأتراك، واستحالة الفصل بينهما مهما كانت أهداف الأجندة أو البروباغندا العسكرية التي أشار إليها الفيلم بوضوح في كل مفاصله التمثيلية.

يروي فيلم "بروباغندا" الذي نال جوائز عديدة منها جائزة الكأس الذهبي في المهرجان السينمائي الرابع في شنغاهاي مأساة حياة سكان قرية في الشرق التركي مكونة من الترك والعرب كانوا يعيشون تحت كنف دولة واحدة، وقد مثّل شخصية الأتراك الفنان الشهير كمال صونال الذي يمكن أن نسميه عادل إمام الترك، كما مثّل صورة العربي الفنان المعروف متين أكبنر، ولا تقتصر المعاني الرمزية على اسم الفيلم "بروباغندا" فحسب، أو أسماء الشخصيات "مهدي" التركي ببزته العسكرية، واسم (رحيم) العربي بشماغه وعقاله وبشرته السمراء وزواجه بأربع زوجات، إضافة إلى صور النوق السائرة في الصحراء، وهي صورة نمطية رسختها الأفلام التركية تاريخياً، والتي تأثرت بالصورة النمطية الغربية وبالتحديد هوليود الأميركية، بل أيضًا رمزية الروابط الأخوية التاريخية بين عائلتيهما، إضافة إلى إنقاذ رحيم -الذي كان يعمل ممرضاً في الحرب- لحياة (مهدي) أثناء خوضهما معاً حرب الاستقلال التركية، وبقي وسام المشاركة على صدريهما شاهداً عليها منذ ذاك الوقت.

يعود (مهدي) ببزته العسكرية إلى قريته بعد تعيينه مديراً لفرع الجمارك لإقامة الحدود بين طرفي القرية (الشمالي والجنوبي) بروابطها المتداخلة المتعددة مزوداً ببكرات الأسلاك الشائكة الكبيرة والكثيرة تنفيذاً لأوامر العاصمة أنقرة، وعلى رأس المستقبلين كان صديقه (رحيم) مقدماً له هدية رمزية وهي الفرس العربي الأصيل الذي سمّاه (مهدي) باسم نابليون بالتوافق مع صديقه (رحيم)، إشارة إلى القائد الأوروبي الذائع الصيت بحنكته وشخصيته العسكرية القوية، الذي ارتبط اسمه بمسار جديد للتاريخ في الشرق والغرب، إضافة إلى إطلاق مقدم الهدية النار ترحيباً بصديقه من المسدس الذي أهداه إليه والد مدير الجمارك قبل زمن طويل.  

وفي حفل افتتاح إقامة الحدود بعد عملية زرع الأسلاك الشائكة يصفق أهل القرية فرحين بكلمة ابن قريتهم مدير الجمارك (مهدي)، الذي يبدأ حديثه بشرح كلمة حدود بالحدود وجمارك بأنها جمارك، ويسألهم هل تحتاج إلى توضيح أيها الأذكياء؟ فيجيبونه متحمسين، بزيادة التوضيح، فيقول: إن الحدود زينة خاصرة دولتنا، وحماية لنا من بعضنا، بعد أن يكرر شرح كلمة جمارك بأنها جمارك والحدود هي الحدود، وفي نهاية الافتتاح يبارك أفراد القرية بعضهم بعضاً بوجود هذه الحدود وجمالها وأهميتها.      

ومع صباح اليوم التالي للافتتاح تأتي زوجة رحيم (معلمة القرية) وغيرها من سكان جنوبستان إلى شمالها فيمنعهم العسكر مطالبين إياهم بجواز السفر الذي لا يعرفون معناه أصلاً، ويحاولون إقناعهم بأن دولتنا من خلال الحدود سيكون لها خريطة يجب علينا حمايتها من الأعداء وحراستها من غيرهم.

وعلى الرغم من منع العسكر أهل القرية الجنوبيين من الدخول إلى شمالها وبالعكس، فقد أُقيمت الفعاليات (التعليمية بين المعلمة وطلابها) والاحتفالات الاجتماعية (الختان للأطفال) وغيرها من المناسبات المؤكدة على عمق العلاقة وتنوعها بين جانبي الحدود المفصولة بالأسلاك الشائكة التي لم تستطع منع استمرار علاقة العشق بين ابن (مهدي) وبنت (رحيم) وخطوبتهما، وبعد هروب العاشقة المشتاقة إلى خطيبها إلى شمالستان، يُقبض عليها وتوضع في السجن بتهمة اختراق الحدود وانتهاك قانونها، ولم تنفع كل المحاولات مع (مهدي مدير الجمارك) لإطلاق سراحها، على الرغم من أنها خطيبة ابنه آدم، بل إن والده أطلق عليه النار لمحاولته الانتقال إلى جنوبستان بعد قرار إخراج خطيبته إلى بلادها عقِب توجيه (والدها رحيم) مسدسه إلى قلب صديقه مدير الجمارك مهدداً إياه بالقتل إذا لم يخرج ابنته.

الطبيعة البشرية تنفر من الحدود القامعة لحريتها، ولا تستقيم معها الحياة الاجتماعية والاقتصادية الطبيعية، بل وحتى الحياة الإنسانية تبدو مستحيلة معها بالنسبة لمدير الجمارك، بعد أن هربت زوجته وأولاده الثلاثة إلى جنوبستان بجانب عائلة (رحيم)، وعجزه عن استعادتهم من خلف هذه الحدود رغم مكانته الوظيفية العليا فيها. اشتد الصراع النفسي والأخلاقي الذي اعتلج في صدر مدير الجمارك بين وظيفته العسكرية وتذكره لماضيه مع أسرة (رحيم) وعائلته، وصراع بين واجبه الوطني وأسرته المقيمة في الطرف الثاني للحدود، وابنه المعتقل المصاب برصاص مسدسه أيضاً.

فصدمت السيارة الحدود وهدمتها ودمرت الحواجز المصطنعة بين الإخوة، ولم تتوقف إلا في ساحة القرية التي تجمّع الناس فيها معبرين عن فرحهم بهذا الانتصار

أخيراً، قرر (مهدي) خلع بزته العسكرية التي ترمز إلى وجود هذه الحدود، وتوجه مع ابنه صوب (رحيم) وعائلته التي همّت بالرحيل بسيارة (دوج) ثقيلة حملت كل أشياء البيت، فالتحق بهم (مهدي) وعائلته وعلى صدره وسام الاستقلال المشترك مع صديقه، ولم تذهب السيارة بعيداً في جنوبستان حتى توجهت صوب شمالستان، وقد رفض الجنود أمر القائد العسكري البديل لمهدي بإطلاق النار عليهم لمنعهم من الدخول،  فصدمت السيارة الحدود وهدمتها ودمرت الحواجز المصطنعة بين الإخوة، ولم تتوقف إلا في ساحة القرية التي تجمّع الناس فيها معبرين عن فرحهم بهذا الانتصار وعودة الحياة إلى طبيعتها المعهودة.

فيلم "بروباغندا" ليس فيلماً كوميدياً تشاهده للمتعة فقط كما هي عادة أفلام كمال صونال في تصويرها لمأساة الحياة وعذاباتها، إنما هو أيضاً فيلم يروي أنموذجاً من فرض الأجندة الغريبة على إرادة الشعوب ونمط حياتها بشعارات طنّانة رنّانة، ويؤكد أيضاً أن السلطة الأحادية مهما كانت متطرفة في محاربة مشتركات الشعوب في الذاكرة والتراب والحياة، فإنها لن تستطيع أن تمحو آثارها أو تتجاهل أهميتها، ولن تنجح في القضاء على الأحلام الكبرى للشعوب في تحقيق وحدتها الحضارية والتاريخية والجغرافية والسياسية.

كلمات مفتاحية