يكشف تحقيق أجراه موقع تلفزيون سوريا عن سيطرة الإيرانيين على أقسام طبية سرية داخل مشفى المجتهد بدمشق، حيث أنشؤوا جناحاً خاصاً يُعرف باسم "جناح الأصدقاء"، مخصصاً لعلاج مقاتلين من جنسيات إيرانية ولبنانية وأفغانية، في حين يعاني السوريون من نقص حاد في الخدمات الصحية الأساسية. يسلط التحقيق الضوء على التجهيزات الطبية المتطورة والخدمات الفندقية التي قدمت للمقاتلين، في مقابل تدهور الواقع الصحي للسوريين الذين اضطروا إلى شراء مستلزماتهم الطبية على نفقتهم الخاصة.
كما يوثق التحقيق كيفية إفراغ المكاتب الإيرانية من الوثائق الحساسة قبيل سقوط النظام، ويستعرض شهادات من أطباء وموظفين في المشفى، كاشفاً أدواراً مشبوهة وتورطاً أمنياً في تحويل المشفى إلى مركز طبي عسكري سري.
"الأصدقاء" يستبيحون جناحاً كاملاً وثلاثة مكاتب
استطاع موقع تلفزيون سوريا إجراء جولة داخل مشفى المجتهد للوصول إلى الأقسام والغرف التي استباحها الإيرانيون لطبابة مرضاهم واستقبال الحالات الإسعافية لمقاتلين من جنسيات مختلفة كاللبنانية والأفغانية والعراقية والإيرانية، من الذين قاتلوا السوريين إلى جانب النظام البائد. وخلال الجولة تبيّن أنهم استولوا على جناح كامل في الطابق الثاني من مشفى المجتهد، إضافةً إلى ثلاثة مكاتب موزعة بين باحة المشفى والطابق الإداري.
وبتوجّه موقع تلفزيون سوريا إلى قسم الإسعاف الحربي، والمعروف بين الأطباء بـ"جناح الأصدقاء"، والموجود في الطابق الثاني وتحديداً في نهاية قسم الجراحة الصدرية، وقد كان لهذا القسم الذي صادره "الأصدقاء" أن يكون قسماً لـ "العناية الصدرية". وبسؤال الدكتور (أحمد دقماق) من قسم الجراحة العامة، أوضح أنه كان يمنع دخول أي طبيب من المشفى إلى هذا الجناح من دون توجيهات الإدارة أو المقيم الأول (الطبيب المشرف)، كما أنهم كانوا يُمنعون من الحديث إلى مرضى هذا الجناح إلا فيما يتعلق بالاستشارات الطبية.
الطبيب (أحمد دقماق)، ذكر لموقع تلفزيون سوريا أنه سُمح له بالدخول إلى الجناح عندما طُلب منه تضميد قدم سكرية لمقاتل لبناني الجنسية، كما دخل مرة أخرى إليه بقصد تحضير مريض لعملية استئصال المرارة وقد جاءت به توصية خاصة من الإيرانيين لارتباطه بهم، علماً أنه يحمل دكتوراه في التشريح المرضي، وفق شهادة (دقماق).
أما عن أحداث ما قبل سقوط النظام، فيقول (دقماق): "قبل سقوط النظام بقرابة الأسبوع أخبرونا بالتوجه إلى قسم الإسعاف في قرابة الساعة الثالثة والنصف فجراً لاستقبال باص كامل يُقلّ مصابين من الأفغان من ذوي السحنة الآسيوية، وكان عددهم قرابة 15 مصاباً. وكانت إصاباتهم ناتجة عن الاشتباكات في منطقة الرستن بحمص، علماً أن الثوار آنذاك كانوا لا يزالون في حلب".
وتمّ نقل أدوات ومستلزمات طبية آنذاك من مستودع الأصدقاء إلى قسم الإسعاف لمعالجتهم، ووفق شهادة الطبيب فإنّها المرة الأولى التي يرون فيها مواد طبية "نخب أول" بحسب وصفه؛ غير متوفرة في أي مشفى حكومي، وهي مواد يُحرم منها المرضى السوريون الذين يضطرون حتى إلى شراء أنابيب التحاليل وقفازات الأطباء على حسابهم الخاص لعدم توفرها في المستشفيات الحكومية. ويذكر (دقماق) أن المشفى بكاملها تحولت إلى حالة استنفار من أجل معالجتهم وفق توجيهات صارمة.
وعن أحداث "البيجر"، يتحدث الطبيب لموقع تلفزيون سوريا عن استقبالهم لأعداد كبيرة من المصابين من عناصر حزب الله اللبناني الموجودين على الأراضي السورية والذين يتحدثون باللهجة اللبنانية، وقد تركزت الإصابات في الأعين والأيدي والخاصرة، ويُقدر عددهم آنذاك بـ 4 إلى 5 إصابات يومياً وفق شهادة (دقماق).
مكتب المتابعة الأساسي لـ "الأصدقاء":
توجه موقع تلفزيون سوريا بعد ذلك، إلى طابق الإدارة برفقة مدير مشفى المجتهد الجديد (الدكتور محمد الحلبوني) الذي تم تعيينه بدلاً من (الدكتور أحمد عباس)، وبرفقة اثنين من موظفي مكتب الجاهزية أيضاً، إلى مكتب "المتابعة الأساسي" الخاص بالإيرانيين والذي كان بإشراف المدعو (محمود طالب خليل). ولدى دخولنا المكتب لاحظنا أنه قد أُفرغ بشكل كامل من الوثائق والملفات وقد عمّته الفوضى.
أما المكتب الثاني، فيقع في باحة المشفى مقابل الباب الرئيسي، وكسابقه؛ كان قد أفرغ من الأوراق والملفات، وقد ترك عناصره الطعام كما هو على الطاولة قبل هروبهم في يوم سقوط النظام، وهو ما يشير إلى أنهم أخلوا أماكنهم على عجل.
في حين يقع المكتب الثالث في باحة المستشفى أيضاً بجانب باب الإسعاف القديم وهو مكتب للنوم والراحة للأصدقاء. وبدخول المكتب الأخير تبيّن أنه يحتوي صورة لقاسم سليماني وبطاقات مكيانيك سيارات الأصدقاء وبطاقات أخرى مصدقة من مكتب الأمن الوطني، وقد منعنا مدير المشفى من تصويرها بحجة انتظار أوامر هيئة تحرير الشام، الذي أشار بدوره إلى أنهم قاموا بتسليم بعض الوثائق والسجلات التي عثروا عليها والتي بقيت بعد سرقة المكاتب، إلى عناصر الهيئة.
ومن الجدير بالذكر، أن جميع هذه المكاتب مزودة بتجهيزات كهربائية حديثة من شاشات وبرادات وغسالات وغير ذلك، كما أننا عثرنا على دفتر يحتوي قوائم بالأطعمة التي كان يتناولها عناصر مكتب المتابعة والتي ضمت أنواعاً من اللحوم والأجبان لا يحل للسوريون في مناطق النظام تناولها؛ إذ بلغت قيمة إحدى الفواتير 3 ملايين ليرة سورية.
استنفار بعد كل غارة إسرائيلية
الطبيب (سعيد نصار) المقيم في شعبة الجراحة الصدرية؛ وهي الشعبة التي تضم جناح الأصدقاء كما ذكرنا سابقاً، أجاب عن بعض الأسئلة المتعلقة بجناح الأصدقاء لكونه شاهداً على وجود هذا القسم منذ وصوله إلى شعبة الجراحة الصدرية في عام 2022.
أوضح (نصار) أن معظم الإصابات التي كانت ترد إلى الجناح هي أذيات حرب، طلق ناري، أذيات انفجارية وشظايا، كما أنهم كانوا يستقبلون أعداداً كبيرة من المصابين عقب الغارات الإسرائيلية التي ازدادت في الفترة الأخيرة قبيل سقوط النظام؛ إذ إنها حالات خضعت للإسعافات الأولية في معظمها، لكن الهدف من نقلها إلى هذا الجناح هو استكمال العلاج والفحوصات ومراقبة حالتهم الصحية؛ وهو ما وصفه (نصار) بـ"الفندقة الطبية".
وبعض الحالات التي يستقبلها الجناح كانت تدخل بالزي العسكري، كما أن بعضها مزوّد بمرافقين مُسلحين (حرس أمني)، أما طاقم التمريض المخصص للجناح فهو على كفاءة طبية عالية لتقديم أفضل رعاية صحية لهم. والجدير بالذكر، أن كل ممرض هو مترجم في الوقت نفسه، إذ إنَّ الممرضين كانوا صلة التواصل بين أطباء المشفى وبين الإيرانيين أو الأفغان الذين جاؤوا لتلقي العلاج.
وقد أشار الطبيب (نصار) إلى أن مستودع الأدوية تمّ نقله من خارج الجناح إلى غرفة داخله قبل قرابة السبعة أشهر؛ هو ما تأكدنا منه لدى دخولنا إلى غرفة ملحقة بحمامات الأطباء داخل الجناح والتي تم تحويلها إلى مستودع للأدوية والمستلزمات الطبية الإيرانية المصدر كما يظهر بالصور المرفقة. وبعد سقوط النظام تمّ جرد الأدوية والأدوات الطبية في هذا المستودع من قبل إدارة المشفى ونقلها إلى مستودع المشفى، كما تمّ تغذية قسم الإسعاف بجزء منها ولا سيما مع ازدياد الإصابات الواردة إلى المشفى في يوم السقوط والأيام التالية له، من جراء الاشتباكات والرصاص الطائش.
يقول (نصار) في حديثه لموقع تلفزيون سوريا: "قاموا بإغلاق باب الجناح؛ بحيث لا يمكن فتحه إلا من خلال زر كهربائي من قبل القائمين على الجناح، علماً أننا كأطباء في شعبة الصدرية، كان يسمح لنا بالدخول إلى حمامات الأطباء وذلك حتى نهاية عام 2023؛ أي قبل إعادة تأهيل وإكساء الجناح وتجديده بالسيراميك والبلاط والإضاءة، فضلاً عن التجهيزات الكهربائية، إذ خُدِّمت الغرف فيه بشاشات وبرادات وطاولات إطعام ومستلزمات طبية كاملة؛ ما جعله قسماً مختلفاً بشكل كامل عن بقية أقسام المشفى؛ فهو أشبه بمشفى حديث مُصغّر داخل مشفى حكومي يفتقر حتى إلى الضماد وعبوات التحاليل!".
الإيرانيون يتخفون يُسجلون بألقاب وهمية
أوضح مكتب الجاهزية في مشفى المجتهد، لموقع تلفزيون سوريا أن الداخلين إلى قسم الإسعاف الحربي "جناح الأصدقاء" من غير السوريين، ولا سيما الذين يحملون جنسيات إيرانية وعناصر حزب الله، يُسجلون في سجلات المشفى بألقاب وهمية مثل: حاج مجاهد، حاج رضا، حاج رسول، حاج مجيد...الخ. وهو ما تأكدنا منه حقاً في أثناء بحثنا داخل مكتب "المتابعة الأساسي" ضمن ملف يحمل الرقم (2250). ووفق أقوال مكتب الجاهزية، فإنَّ الجناح كان تحت إشراف ورقابة أجهزة النظام الأمنية. أما مدير المشفى (محمد الحلبوني) فقد أوضح أنها المرة الأولى التي يدخل فيها إلى هذا المكتب أو يعرف بوجوده أصلاً داخل المشفى.
فوضى يوم السقوط واختفاء الملفات
في شهادته لموقع تلفزيون سوريا، أوضح الموظف في مكتب الجاهزية (أيمن الحرش)، أنه بتاريخ 8 كانون الأول، أي في يوم سقوط النظام، دخلت مجموعة إلى المشفى واقتحمت المكاتب الإيرانية على وجه التحديد، وكسرت الأقفال والأبواب وقامت بسرقة جميع الملفات الورقية والأضابير من داخل هذه المكاتب، كما أنهم حاولوا كسر باب خزنة مالية كبيرة الحجم موجودة في مكتب المتابعة الأساسي، وهو ما تأكدنا منه حقاً لدى توجهنا إلى المكتب كما يتضح في الصور المرفقة.
يقول (أيمن الحرش) لموقع تلفزيون سوريا: "دخلوا وادعوا أنهم من أحرار درعا، وحينما حاولت منعهم من سرقة الأوراق، بدؤوا بشتم النظام وإيران وتمزيق صور القادة الإيرانيين، وأخذوا ما أرادوا ورحلوا، ثمّ قمنا بعد ذلك بإقفال المكاتب وتسليم ما تبقى من أوراق إلى عناصر هيئة تحرير الشام".
وتثير الرواية التي أدلى بها (الحرش) عدداً من التساؤلات عن استهداف المكاتب الإيرانية في المشفى على وجه التحديد وكيفية معرفتهم بوجودها وبمواقعها داخل المشفى ومصير الأوراق التي قاموا بسرقتها، والأهم من ذلك... ما هوية الأشخاص الذين دخلوا هذه المكاتب؟ إذ يُرجّح (الحرش) ومدير المشفى أنهم من أتباع الميليشيات الإيرانية الذين استغلوا الفوضى ودخلوا بحجة أنهم من الثوار لأخذ الملفات وإخفاء الأدلة، ولا يمكن الجزم بأي إجابة عن ذلك، لكننا نؤكد إفراغ المكاتب والمجلدات والخزائن من الأوراق، فيما عدا بعض الوثائق التي عثر موقع تلفزيون سوريا عليها خلال عملية البحث فيها.
الأوراق التي عثرنا عليها
كان لموقع تلفزيون سوريا الأسبقية بدخول هذه المكاتب كجهة إعلامية مُصرَّح بها من قبل وزارة إعلام هيئة تحرير الشام، وتفتيش محتوياتها والبحث في الفوضى داخلها، وسنرفق صوراً بالوثائق التي حصلنا عليها مع توضيح لها:
- كتاب صادر عن وزارة الخارجية السورية إلى السفارة الإيرانية بدمشق، حول استعداد إيران لتمويل مشفى الأسد الجامعي بتجهيزات طبية تضمنت: أجهزة تنظير وطبقي محوري وسيارات الإسعاف ووحدات غسيل الكلى... وغير ذلك. وهنا يأتي السؤال حول إذا ما كانت هذه التجهيزات قد وصلت حقاً إلى مستشفى الأسد الجامعي لتخديم المواطنين أم أنها سُرقت من قبل النظام وأتباعه على غرار بقية المساعدات الإنسانية والطبية؟
- وثيقة مساعدة إيرانية لأخت الإعلامية في تلفزيون النظام السابق (أليسار معلا) ابنة اللواء المتقاعد (محمود معلا)؛ لإجراء عمليتين بقيمة 13 مليون و500 ألف ليرة سورية.
- طلب باسم المساعد أول (فؤاد إبراهيم) مقدم إلى السفير الإيراني لتحصيل مساعدة مالية إيرانية لتغطية تكاليف علاجه بعد إصابته في الغارة التي استهدفت القنصلية الإيرانية بدمشق.
- ملف كامل بتوقيع (محمد هادي الضيغمي) المسؤول عما يسمى "بيت الابتكار والتكنولوجيا الإيراني في سورية"، والمقدم إلى سفير إيران السابق (حسين أكبري)، وهو ملف يتضمن دراسة عن: السوق السورية في مجال الصحة؛ مزوداً بأرقام وثغرات ونقاط صعف في القطاع الصحي السوري، من أجل تسهيل استيلاء إيران على القطاع الصحي وتحويل سوريا إلى سوق للمنتجات الإيرانية.
- ملف كامل باللغة الفارسية يتضمن الصادرات الطبية والتجهيزات التي قدمتها إيران للنظام، مرفقاً بصور وبيانات، مع قيمة صادرات قدرت بـ 840 ألف دولار أميركي.
- لائحة بأسماء "شهداء الدفاع المقدس" تتضمن أسماء سوريين قتلوا في معارك مختلفة، مع تفاصيل السكن وتاريخ مقتلهم وتفاصيل أخرى.
- لائحة بأسماء الأطباء والصيادلة من خريجي الجامعات الإيرانية المقيمين في السيدة زينب بريف دمشق، تتضمن 23 اسماً من مختلف الاختصاصات.
- وثائق جامعية:
- مفاضلة (العرب والأجانب) لأصحاب شهادات ثانوية صادرة عن المدرسة الإيرانية في دمشق
- إيصال من بنك سورية الدولي الإسلامي بقيمة 820$ مدفوع للجامعة السورية الخاصة من قِبل رئيس مكتب المتابعة (محمود خليل).
- أوراق لكشوفات وحقوق وذمم مالية لمن أجروا عمليات داخل المشفى، وسجل كبير يضم أسماء المرضى والأدوية التي تلقوها.
يُشار إلى أنّ جمعية "الرعاية الطبية" ومقرها في السيدة زينب وفق أقوال مكتب الجاهزية، كانت تتكفل بتزويد جناح الأصدقاء بالمواد الطبية، فضلاً عن دفعها تكاليف العمليات الجراحية والخدمات العلاجية في نهاية كل شهر، وهي جمعية مخصصة لدعم وتمويل قسم "الإسعاف المدني" وتأمين الرعاية الطبية للشيعة من مختلف المناطق، داخل مشفى المجتهد.


























