جرة غاز طائشة في الشيخ سعد..

2021.08.18 | 06:46 دمشق

whatsapp-image-2021-08-15-at-12.50.16-pm-1-1.jpeg
+A
حجم الخط
-A

انتشرت في الآونة الأخيرة مجموعة من الفيديوهات والبوستات لشخصيات عامة محسوبة على نظام الأسد، وبعضهم من كبار مؤيديه وشبيحته، تتذمر من الأوضاع المعيشية رافعة سقف الانتقاد حتى ليكاد يخيل للمتابع أن هؤلاء فهموا أخيراً أن لا حل مع النظام إلا بالثورة عليه، حيث تحمل هؤلاء المؤيدون كل سنوات الحرب والحصار، ثم حينما آن أوان الحصاد، تخلت "الدولة" التي ناصروها عنهم وتركتهم يلهثون وراء رغيف الخبز دون جدوى..

حكاية جرة فارغة

آخر تلك الفيديوهات كان لمذيعة في التلفزيون السوري امتطت صهوة جرة غاز فارغة، وسافرت بها من المزة ٨٦ إلى الشيخ سعد، وبلقطة واحدة حققت المذيعة شهرة سبقت شهرة امرؤ القيس، وكانت وكأنها تقول:

وقد أغتدي والغاز في وكناته       بمنجردة قيد الأوابد جرتي.. (تقصد جرة الغاز)

لقد لفتت مذيعة الغاز الأنظار إليها وأصبحت بلحظة واحدة ناراً على علم، بل وراحت معظم القنوات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية التابعة للمعارضة تتسابق في نشر الفيديو، وترويجه، وإعداد تقارير صحفية عنه، بل وربما صنع الإعلام المعارض من المذيعة المذكورة أيقونة جديدة من أيقونات المعارضة، على اعتبار أن الفيديو هو شهادة لا يمكن للنظام تكذيبها على مبدأ "شهد شاهد من أهله".

على المستوى الشعبي، وعلى مستوى جمهور المعارضة تم الاحتفاء أيضاً بمذيعة الجرة الفارغة، ولربما لم يبق أحد ممن شاهد الفيديو إلا وشاركه مبتهجاً بمضمونه، باختصار لقد وهبت المعارضة الرسمية والشعبية الثقة لتلك الموالية المتمردة، الثائرة الجديدة، وجعلت منها نقطة ارتكاز في إدانة نظام الأسد باعتراف أتباعه.

عقوبة مشتهاة..

ولإضفاء مزيد من المصداقية على الموالية الشبيحة، تم تداول صورة لها وهي مشوهة الوجه إثر اعتداء كبير مفترض عليها من قبل أتباع النظام، وتبرع المعارضون في الترويج لتلك الرواية، ولكن المذيعة نفسها نشرت في اليوم التالي فيديو يكذب رواية الاعتداء عليها ويبرأ النظام وأتباعه من تلك التهمة، وفي الفيديو الثاني راحت المذيعة الشبيحة تكيل المديح للسيد الرئيس الذي يحميها ويمنحها القوة، الرئيس العادل، الرائع، الضامن للديمقراطية وحرية التعبير والمدافع عنهما، الرئيس الأخ والأب والصدر الحنون والملجأ والمرجع.. إلخ.

لقد كان من الواضح أن المذيعة قامت بتصوير الفيديو الثاني قبل الأول، أو على الأقل أنها صورت الفيديو الأول بهدف تحقيق غاية الفيديو الثاني وهي الرسالة التي دأب كل الشبيحة على إيصالها والمتضمنة دائماً الاعتراف بوجود الفساد والفاسدين، والتأكيد على أن السيد الرئيس هو من يحارب الفساد، أيضاً ثمة رسالة شديدة الخبث وهي تلك المتعلقة بما يمكن تسميته تعويم الفساد، أي الاعتراف بوجوده باعتباره ظاهرة عالمية، وباعتباره الانتهاك الوحيد الذي يمارسه النظام بحق السوريين، هو نوع من الإقرار بتهمة صغيرة لنفي التهمة الكبرى، كمن يعترف بالسرقة لينفي جريمة القتل، وهي أهم ما يركز عليه النظام وأهم ما يحتاجه لإعادة تدوير نفسه داخلياً..

فخ الإشاعة..

ربما كانت النقطة الأشد خطورة والتي بات من الضروري الانتباه إليها، هي فخ الإشاعة الذي اعتاد النظام على إيقاعنا به منذ عشر سنوات، ففي الفيديو المشار إليه تحولت المذيعة إلى شاهد ذي مصداقية لدى معارضي الأسد، وجرّتهم بجرة غازها الفارغة إلى التعامل معها والترويج لها ولروايتها على هذا الأساس، فيما جاء الفيديو الثاني ليحرج كل من استشهد بالفيديو الأول الذي تضمن إشارات غير مباشرة جعلت المعارضين يعتمدونه دليلاً ليس على فساد شخصيات وأفراد في النظام بل يشمل رأس النظام أيضاً، صحيح أن تمثيلية الجرة الفارغة كانت فجة وسخيفة وساذجة، ولكن تلهف المعارضين على ما يبدو لأية حالة تمرد على النظام من قبل أتباعه هو ما جرّهم للتفاعل مع المذيعة والاستشهاد بها..

وطنيات بشار إسماعيل

الممثل بشار إسماعيل كان قد ظهر في عدة فيديوهات وهو ينتقد المسؤولين بحدة، مما حدا بالكثيرين بمن فيهم جهات ووسائل إعلام معارضة وشخصيات عامة وأصحاب منصات إعلامية إلى الاستشهاد بفيديوهات بشار إسماعيل على أنها الدليل الحاسم على حتمية تمرد الحاضنة الشعبية للنظام بدلالة تمرد بشار إسماعيل، لقد صوره البعض على أنه يقود ثورة داخلية ضد النظام، ورغم أن إسماعيل لم يبث حتى تاريخه فيديو التغزل بالسيد الرئيس بعد الفيديو الأخير الذي انتقد فيه المخابرات بشكل أقرب للمباشر، إلا أن ذلك متوقع في كل لحظة، فضلاً أن لدى الأخير رصيداً كبيراً من التشبيح والتغزل بالرئيس بما يجعله فوق الشبهات بالنسبة للنظام.. قبلها كانت الممثلة شكران مرتجى قد قامت بذات المحاولات للظهور بمظهر المتمرد الشجاع الذي يتجرأ على انتقاد الأوضاع، ولكن مرتجى كانت تضمن حبها للرئيس ووفاءها له في ذات البوست لأنها لا تجرؤ على تأجيل التشبيح لبوست لاحق.

التمرد المستحيل..

البحث عن أي بارقة تمرد من الداخل يتأكد من خلال متابعة جمهور الثورة لأي بوست متذمر لأحد أتباع النظام، ومحاولة البناء عليه واعتماده كشاهد على انهيار النظام وتآكله من الداخل واقتراب الثورة عليه، غير أن كل التجارب السابقة والحالية أثبتت قدرة النظام على التلاعب بنا عاطفياً من خلال الإشاعة، ومن خلال إطلاق أتباعه لشن تلك الحملات المتذمرة ضده بالاتفاق معه أو على شكل مهمات يوكلها إليهم فقط في محاولة لتدوير الرئيس داخلياً وخارجياً أيضاً من خلال ضرب مصداقية المعارضة.

لقد اعتمد النظام تقنية الإشاعة تلك منذ بدايات الثورة، وساعده جمهور الثورة في أن يضع نفسه دون وعي كأداة ترويج لما يريد النظام أن يروج له، حيث كان إعلامه يصف كل الأحداث حينذاك بالمفبركة، وربما نذكر جميعاً حادثة انشقاق السفيرة السورية في فرنسا في العام ٢٠١١ والتي تداولها جمهور الثورة على أنها حقيقة لا تقبل التكذيب، وتداولتها كل وسائل الإعلام والقنوات الفضائية التي كانت تغطي الحدث السوري، ووصف النظام ذلك بالفبركة ثم ما لبثت السفيرة أن خرجت لتكذب كل تلك "الإشاعة"، فاكتسب النظام حينها الكثير من المصداقية رغم كل الكذب والتضليل الذي مارسه وفتح المجال للتشكيك بكل الأخبار الأخرى واحتمالية أن يكون كل ما تبثه القنوات الفضائية مفبركاً أيضاً..

إن شبيحة النظام الذين لم تهزهم الأرواح البريئة التي سقطت، ولا أنهار الدماء التي سالت على مدار عشر سنوات، لا يمكن أن يتخذوا في لحظة مفاجأة قرار تمردهم، بل إنهم لا يزالون يتورطون أكثر في خدمة النظام، ولا نزال نحن نتورط في تصديق شائعاتهم ومساعدتهم على ترويجها.

المثل الشعبي يختصر العلاقة بين النظام وأتباعه: طب جرة الغاز ع تمها، بتطلع البنت لأمها، مع تعديل بسيط هنا وهو أن الجرة هي المذيعة نفسها والأم هي نظام الأسد..