تشهد مدينة جرابلس، الواقعة في ريف حلب الشرقي والخاضعة لسيطرة الجيش الوطني السوري، تدهوراً أمنياً غير مسبوق، فقد أصبحت عمليات القتل والخطف مشهداً يومياً تحدث في وضح النهار من دون أي رادع، مما دفع السكان إلى التعبير عن غضبهم إزاء الانفلات الأمني الواضح، ومع تصاعد وتيرة الجرائم، تتزايد الشكاوى من ضعف الأجهزة الأمنية، التي تبدو عاجزة عن الحد من هذه الفوضى.
الأوضاع في جرابلس لم تعد تحتمل بالنسبة للسكان، إذ أصبحوا يشعرون أن حياتهم وحياة أسرهم في خطر دائم، وفي ظل هذا الانفلات الأمني، بدأت العديد من العائلات في التفكير بجدية في مغادرة المدينة بحثاً عن مناطق أكثر أماناً، حفاظاً على حياتهم ومستقبل أطفالهم، فمشهد القتل العلني والخطف الذي يحدث أمام الجميع من دون تدخل يُذكر يعكس حالة من الفوضى التي لم تعد تحتمل.
تفاقم الوضع الأمني في جرابلس دفع العديد من أهالي ووجهاء المدينة إلى مناشدة وزارة الدفاع في الحكومة السورية المؤقتة للتدخل بشكل عاجل، مشيرين إلى ضرورة إعادة النظر في الإجراءات الأمنية المتبعة حالياً وتفعيل دور الأجهزة الأمنية للحد من هذه الجرائم المتكررة، فالسكان يعيشون في حالة من الخوف الدائم، ولا يمكنهم مواصلة حياتهم اليومية بشكل طبيعي وسط هذه الفوضى.
خلال الشهر الجاري، شهدت المدينة ارتفاعاً حاداً في الاشتباكات المسلحة، التي غالباً ما تحدث من دون تمييز بين الأطراف المتنازعة والمدنيين، كما أن حوادث القتل الأخيرة، بما في ذلك عمليات اغتيال لأشخاص عديدين، زادت من حدة التوترات، ومع استمرار هذه الأحداث، تعكس الأوضاع الأمنية المتردية صورة مظلمة للمدينة التي كانت يوماً ما ملاذاً آمناً للنازحين من مختلف المناطق السورية.
في ظل هذا الواقع المأساوي، يشعر سكان جرابلس بالإحباط من الجهات الأمنية التي لم تعد قادرة على احتواء الأوضاع، القتل في وضح النهار والخطف أمام أعين الجميع لم يعد أمراً غير مألوف، بل بات جزءاً من الحياة اليومية، ويدفع هذا الفشل في ضبط الأمن إلى التساؤل: إلى متى سيستمر هذا الوضع؟ وهل هناك أمل في استعادة الأمان في هذه المدينة التي كانت يوماً ملاذاً للآلاف؟
توترات متصاعدة
في يوم 24 أيلول الجاري، أصدر مجموعة من وجهاء مدينة جرابلس بياناً يطالبون فيه وزارة الدفاع والفيالق الثلاثة في الجيش الوطني السوري، باعتقال المطلوبين المتورطين في الأحداث الأمنية، وفرض الاستقرار في المدينة التي تصاعد العنف فيها منذ بداية الشهر الجاري ما انعكس سلباً على مختلف مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية فيها.
ويمكن تلخيص الأحداث الأمنية التي شهدتها جرابلس منذ بداية شهر أيلول الجاري بالآتي:
في 10 أيلول، قُتل المدعو خليل العلوش على يد حرس الحدود التابع لوزارة الدفاع في الحكومة المؤقتة إثر اشتباكٍ معه في أثناء محاولة القبض عليه بتهمة تهريب البشر إلى تركيا، ودارت على إثرها اشتباكاتٌ عنيفة بين حرس الحدود من جهة وعشيرة الجوبانات إحدى عشائر قبيلة طيء من جهةٍ أخرى، ما أدى إلى مقتل محمد الشايش المقرب من عشيرة الجوبانات وعنصرين من حرس الحدود.
في 12 أيلول، أصيب نجدات المرعي من عشيرة الدكارات إحدى عشائر قبيلة طيء من جراء إطلاق الرصاص عليه من قبل مجهولين بالقرب من قرية الجامل بريف جرابلس، واندلعت على إثرها اشتباكات عشائرية.
في 14 أيلول، سُجلت محاولة اغتيال شخص يدعى مسلم الجادر أمام منزله، ما أدى إلى إصابته وإصابة مدني نازح من دير الزور.
في 23 أيلول، قُتل محمد علي الوايس من قبيلة الجيسات بعد إطلاق شخصين يستقلان سيارة الرصاص عليه بالقرب من المدرسة الشرعية، وكرد على مقتل الوايس استهدف مسلحون من قبيلته أشخاصاً من عشيرة الدكارات ما تسبب بإصابتهم بجروحٍ خطيرة.
في 25 أيلول، اختطف مجهولون في جرابلس تاجراً ينحدر من مدينة منبج، وعُثر على سيارته محروقة قرب منطقة زوغرة بريف جرابلس.
سكان المدينة غاضبون
عبّر العديد من سكان مدينة جرابلس عن غضبهم من الواقع الأمني السيئ الذي وصلت إليه المدينة، إذ قال الصحفي المقيم في المدينة حامد العلي: "تشهد مدينة جرابلس تصاعداً خطيراً في الاستهدافات والاشتباكات اليومية، مع إطلاق النار المستمر والاغتيالات التي تستهدف المدنيين والعسكريين على حد سواء".
وأضاف العلي: "لا يتم تمييز الأطراف المتنازعة عن المدنيين، حتى إن المدنيين الذين ليس لهم علاقة بالنزاع لم يسلموا، الأوضاع الأمنية في المدينة تزداد سوءاً خصوصاً خلال الشهر الجاري مع ارتفاع ملحوظ في حدة المواجهات وغياب واضح لدور السلطات في التدخل ووضع حد لهذه التجاوزات، مما يترك السكان في حالة من الخوف والقلق المستمر.. جرابلس غير آمنة".
من جهته، قال الإعلامي عاصم بركات: "طالما ساكن بجرابلس، فعادي جداً أن ينقتل شخص بوضح النهار، عادي بعد دقائق أن يُضرب شخص قدام بيته هو وابنه، وعادي جداً أن يُضرب عليك رصاص وأنت ما دخلك بشيء. بعيداً عن الأسباب، بس مو بهيك طرق. أنا ومدري كم ألف نسمة بجرابلس نتساءل وبعدين..؟!".
أما الصحفي والإعلامي بلال أبو عبيدة، فقد قال: "وصلنا إلى انهيار أمني كامل في جرابلس ولم تعد صالحة للسكن أبداً، القتل في وضح النهار وفي أماكن مزدحمة وبدون أي محاسبة، ولا يوجد من يوضح أو يسعى للحل".
وبعد أيام، قال "أبو عبيدة" في منشور آخر على "فيس بوك": "نجاني الله من الموت بعد إيقافي من قبل شخص مسلح مجهول بالنسبة لي وأطلق النار فوق سيارتي، وطلب مني تغيير طريقي قبل أن يتدخل شخص آخر ويبعده، وذلك خلال الأحداث العشوائية ضمن الاقتتالات الداخلية المستمرة في جرابلس".
آثار سلبية على كل الأصعدة
لم يقتصر أثر العنف المتصاعد في المدينة على ما يحدثه من قتلى وجرحى بل امتد ليشمل مناحي مختلفة من الحياة في المدينة.
على المستوى الاقتصادي، أثّر تردي الواقع الأمني على الحركة التجارية في المدينة وخاصة في السوق الرئيسي؛ سواءً من ناحية امتناع بعض أصحاب المحلات عن فتح محالهم خوفاً من إمكانية اندلاع اشتباكاتٍ مسلحة من دون سابق إنذار، أو من خلال خوف الناس من الذهاب إلى السوق واعتمادهم على المحال الصغيرة في حارات المدينة في شراء احتياجاتهم، كما بدأ كثيرٌ من أبناء ريف جرابلس بالاعتماد على بلدة الغندورة لشراء احتياجاتهم مما انعكس سلباً على الحالة الاقتصادية في المدينة.
وبدأ العديد من أصحاب المصالح والتجار في التفكير بنقل أعمالهم إلى مدن أكثر استقراراً وأماناً، إذ تشكلت مخاوف حقيقية من استمرار الأنشطة الاقتصادية في مدينة جرابلس، كما يخشى سكان المدينة من الاستثمار المحلي، خوفاً من تعرض مشاريعهم ومحالهم للحرق أو التدمير بسبب النزاعات والثارات المتصاعدة.
اجتماعياً، أسهمت الاشتباكات المتكررة وما أحدثته من دماء في أوساط عشائرية تنتشر بين أفرادها ثقافة الثأر، بانقساماتٍ واصطفافاتٍ عشائرية جعلت من مجتمع مدينة جرابلس مجتمعاً مفككاً، كما تأثرت مجموعة من الخدمات الاجتماعية بهذه الاشتباكات. فعلى الرغم من مضي أكثر من أسبوعين على بدء العام الدراسي الذي انطلق في 8 أيلول الجاري، فقد امتنع كثيرٌ من الأهالي عن إرسال أبنائهم إلى المدارس خوفاً عليهم من الاشتباكات المسلحة المتكررة، كما بدأت أصوات بعض العائلات النازحة ترتفع بالحديث عن ضرورة النزوح من جرابلس إلى منطقة أكثر أماناً.
كما أثر العنف على عمل عددٍ من المنظمات الإنسانية المدنية مثل صندوق الائتمان لإعادة إعمار سوريا، الذي تعطّل مؤقتاً استكمال مشروعه الهادف إلى إنشاء محطتي ضخ مياه لجرابلس وريفها.
ما الحلول؟
في محاولةٍ منهم لإخراج المدينة من أزمتها، اجتمع عددٌ من الوجهاء الممثلين لسكان المدينة من مقيمين ونازحين، واتفقوا على الذهاب للشرطة العسكرية ومطالبتها بأن تتحمل مسؤوليتها في حفظ الأمن.
ودعا الوجهاء الشرطة العسكرية إلى تحمل مسؤوليتها في حفظ أمن الناس، وأنّ مقاربتهم القائمة على الصلح لحل الاقتتالات العشائرية لم تعد تنجح، مطالبين باتخاذ إجراءات حازمة، وبعد الاجتماع، نشروا بياناً مصوراً طالبوا فيه وزارة الدفاع والفيالق الثلاثة في الجيش الوطني باعتقال المطلوبين المتورطين في الأحداث الأمنية وفرض الاستقرار في المدينة.
تحليل وملاحظات
يمكن طرح العديد من الملاحظات حول الواقع الحالي في مدينة جرابلس، وأهمها:
اعتماد الفاعلين الأمنيين على مقاربة الصلح من دون عقوبة رادعة في التعامل مع الصراعات العشائرية أدى إلى تفاقم هذه الصراعات، وتنامي الشعور لدى هذه العشائر بضعف السلطات القائمة، وهذا جعلها تتجرأ عليها كما حدث في 10 أيلول الجاري عندما هاجم مسلحون عشائريون مقر قوات حرس الحدود في المدينة وقتلوا عنصرين منهم.
مقاربة الصلح من دون عقوبة رادعة قد تشير إلى وجود خوف حقيقي لدى قادة الأجهزة الأمنية في جرابلس من التعامل الحازم مع العشائر وما يمكن أن ينتج عنه من اشتباكات وقتلى قد تجعلهم هم أنفسهم وأقاربهم ضمن دائرة الثأر العشائري.
استمرار الواقع الأمني وآثاره في جرابلس من دون معالجة تعتمد مقاربة جديدة فاعلة في مواجهة العنف المتصاعد سيجعل من المدينة بيئة شديدة الطرد للسكان، وهذا قد يدفع كثيرا من العائلات للنزوح منها، وخاصة من فئة النازحين إليها.
الاعتماد على قوات فصائل عسكرية من خارج المنطقة لتنفيذ حملة أمنية واسعة على المطلوبين المشتركين في العنف والاشتباكات المتكررة، وسجنهم في مناطق أخرى غير جرابلس مثل اعزاز وعفرين يمكن أن يكون حلاً يسهم في ضبط الأمن في المدينة من جهة، ويجنب مسؤولي الأجهزة الأمنية فيها تحمل مسؤولية ما يمكن أن ينتج عن هذه الحملة من اعتقالات وربما إصابات وقتلى من جهةٍ أخرى.