جدل سياسي أم ردّحٌ إيديولوجي؟

2019.10.17 | 17:49 دمشق

20191017_2_38791723_48556586.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم يكن أمراً مفاجئاً أن نشهد ردود أفعال متباينة إزاء العملية العسكرية التي بدأها الجيش التركي والفصائل العسكرية المنضوية تحت مسمى الجيش الوطني في التاسع من الشهر الجاري، في منطقة الجزيرة السورية، ذلك أن مفهوم الإجماع في الرأي حول أي مسألة ذات صلة في الشأن السوري، مهما كانت جزئيتها، يكاد يكون معدوماً، لا يعود هذا – بالطبع – إلى مشروعية الخلاف في الرأي، أو ضرورة التمايز في المواقف والرؤى، بقدر ما يعود إلى غياب الفهم المشترك للقضية الأم، ومن ثم غياب آليات تفكير مشتركة تتخطى تخومها وسواترها القديمة، وتستلهم المعطى الراهن الذي يهيمن على سوريا أرضاً وشعباً.

لعلّه من السهولة أن نكون قادرين على تفهّم المواقف الخارجية – إقليمياً ودولياً – مما يجري في بلدنا، ذلك أن المعايير الحاملة لتلك المواقف لم تعد تحتاج إلى مزيد من التفكير، بل إن أنصع طريقة لفهم تلك المواقف هو الإنصات لما يقوله أصحاب المواقف ذاتها، بلا تحريف أو تأويل، الولايات المتحدة الأمريكية، ومن خلفها أوربا،  وتركيا يقولونها بملء الفم: إن موقفنا من قضاياكم – أيها السوريون – محكومة بمصالحنا المادية حصراً، وإن سلوكنا حيال ما تتعرضون له من إبادة وتشرّد، ليس مشروطاً بعدالة قضيتكم، ولا بمشروعية مطالبكم، بل محكوم أيضاً بمدى ضررنا أو انتفاعنا من مأساتكم، ولا يخفي الجميع، أن مواقفهم الإعلامية التي يُراد منها أن تستر عوراتهم الأخلاقية شيء، والمواقف الفعلية شيء آخر، ولعل خير من عبّر عن هذه الحالة بكل وضوح هما الرئيسان الفرنسي والأمريكي، إذ إن كلام ماكرون ( الأسد عدوٌ لشعبه ولكنه ليس عدواً لنا) هو ترجمة حقيقية لسلوك فرنسا السياسي القائم على التناقض بين خطابها المطعم بالنزعة الإنسانوية الحقوقية، ومواقفها الفعلية من نظام الأسد، والوجه الثاني لهذه المعادلة عبّر عنه الرئيس ترامب مخاطباً حليف الأمس ( قوات سوريا الديمقراطية) : لقد أعطيناكم مالاً كثيراً وعتاداً عسكرياً ثقيلاً، لقاء تحالفكم معنا، فاذهبوا وشأنكم.

لم تعد ثمة حاجة للتأكيد على أن جميع الأطراف ذات المصالح المتصارعة على الأرض السورية، هي غير معنيّة بما يوجع السوريين

لم تعد ثمة حاجة للتأكيد على أن جميع الأطراف ذات المصالح المتصارعة على الأرض السورية، هي غير معنيّة بما يوجع السوريين، بقدر ما يعنيها مصالحها المختلفة، بل بات هذا الوضوح من الاحتراب على الجغرافية السورية يصل إلى درجة التصريح الواضح من جميع الأطراف بأن مصطلح ( القضية السورية) قد أُفرغ من محتواه إفراغاً كاملاً، فلم يعد يعني ثورة شعب مقهور، انتفض بوجه نظام استبدادي متوحّش، أضف إلى ذلك، التجاهل المطلق لجميع المحدّدات والتداعيات الإنسانية الموجبة لالتفاتة الضمير الإنساني، ما يعني أن التنصّل الأخلاقي لأوربا وأمريكا، بلْه العرب والمسلمين، من القضية السورية، تحوّل إلى إذعان صريح، وموافقة واضحة على أن تتحوّل الثورة السورية إلى جثة مقبورة، وما الاستمرار بذبح السوريين سوى عقاب لهم على ما اقترفوه بحق أنفسهم، وفقاً لتعبير الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، حين رأى أن الشعب السوري هو السبب فيما هو حاصل له من دمار وموت وخراب.

الوجه الثاني والأكثر مرارة لهذه المقاربة يكمن في مواقف السوريين أنفسهم، حيال ما يجري في الجزيرة السورية، وبالتحديد مواقف قوى المعارضة من جماعات وأحزاب وأفراد. لعلّه من الطبيعي جداً أن يكون ثمة رافضون ومؤيدون وأصحاب مواقف أخرى لما يجري، لو أن هذه المواقف – على تباينها – كانت منبثقة من مقاربة تأخذ بعين الاعتبار المصلحة الوطنية السورية، أو لو أنها تأسست على معاينة جدّية للراهن السوري، بمعزل عن اليقينيات السابقة القارّة في النفوس والعقول معاً، أو بعيداً عن البواعث النفعية التي نمتْ في الأصل على حوامل من خارج المشهد السوري.

التيار الأبرز الذي ناهض العملية العسكرية التركية من السوريين هم اليساريون – قوميون وشيوعيون وعلمانيون إلخ – ولعل المتتبع لفحوى مناهضتهم سيجد قاسماً مشتركاً لديهم جميعاً، تختزله عبارة ( النهج الإخواني لأردوغان ) ثم تأتي التفاصيل لاحقاً، اعتداء على السيادة الوطنية – إبادة الأكراد – التغيير الديموغرافي إلخ، وفي الطرف الموازي، نجد أن معظم الذين أيدوا العملية العسكرية هم من الإسلاميين، إضافة إلى أطياف أخرى، ولو تتبعنا – أيضاً – حيثيات تأييدهم لتلك العملية لوجدناها تكمن في انحيازهم ل ( النهج الإخواني لأردوغان) ذاته، إذ أن معظم الإسلاميين مازالت مواقفهم حيال القضية السورية محكومةً بفتوى ( الأم والجنين) التي يصعب الحياد عنها لدى الكثيرين، ثم تأتي التفاصيل لاحقاً.

ما هو لافت للانتباه أن أسباب الرفض والتأييد لدى الطرفين – اليساريين والإسلاميين معاً – إنما تنبثق من محدّدات إيديولوجية أولاً ( النهج الإخواني لأردوغان)، ثم تأتي التفاصيل اللاحقة، لا لتبرهن ،أو تغني أو تضيف، بل لتبرر المسلّمة الأساسية، او المقدّمة الكبرى. وبناء على تلك المحاكمة، فإن كل ما سينتج عن هذه العملية العسكرية، محكوم عليه بالشر لدى اليساريين، لأنه نتيجة لمقدمة، أصلها الشر، وكذلك الحال بالنسبة إلى الإسلاميين، فإن جميع نتائج أو تداعيات تلك العملية هي محكومة سلفاً بصوابيّة المسلّمة الأساسية.

ثمة مسألة أخرى بدت ساطعة في هذه المعمعة الإيديولوجية، وهي فقدان موقع كلٍّ من الطرفين – الإسلاميين واليساريين – لموقعه الذي كان يدّعيه لنفسه، وانزياحه كلياً إلى حالة من التماهي مع من يدافع عنه، فاليساريون الذين ناهضوا العملية العسكرية التركية في الجزيرة، قد حجب خطابهم المشحون بمزيد من الحنق، وشجبهم الشديد للسياسة التركية، الوجه الحقيقي للطرف الآخر في الصراع، وأعني حزب الاتحاد الديمقراطي pyd ، إذ تحوّل هذا الحزب الذي يُعدّ امتداداً سياسياً لحزب العمال الكردستاني، التركي المنشأ، والمصنف على لوائح الإرهاب، إلى قربان للديمقراطية ولأخوة الشعوب، وقد غاب – بقدرة قادر- عن أذهان جميع المنافحين عن هذه الضحية، أن القوة التي كان يقودها حزب الاتحاد الديمقراطي ( قوات سورية الديمقراطية) لم تكن ممارساتها بحق السوريين من سكان منطقة الجزيرة، ومنبج والرقة والعديد من بلدات ريف حلب الشمالي، أقل إجراماً من أي ميليشيا مناهضة للثورة السورية، فضلاً عن أن حزب pyd أعلن مناهضته للثورة السورية منذ أيامها الأولى، ثم تفاقم هذا الموقف ليتحوّل فيما بعد، إلى حالات تنسيق عسكري مع قوات الأسد، ومع ذلك ، فالبعض من اليساريين قد رفع له القبعات، والبعض يجد في أعضائه رفاق درب ونضال، ولكن تقتضي الأمانة أن نقول: إن أشدّ منتقديه اكتفى بالقول: إن لدى قسد أخطاء، ولكن ...). أمّا الإسلاميون فإن سخطهم على خصم حليفهم لم يكن بسبب الموقف السياسي أو السلوك الفعلي لقسد، وتداعيات هذا السلوك على قضية  السوريين الوطنية، بل كانت مناهضتهم لهذا الكيان تتقوّم على حوامل عقدية أو دينية، فهم يهاجمونه لأنه حزب يميل إلى الإلحاد، ويشجع على حماية المثلية الجنسية ويدعو إلى مساواة المرأة بالرجل، وبالتالي فإنه يعمل على انتهاك قيم الإسلام ويحرّض على مناهضة التقاليد والأعراف المحافظة، وهكذا يصبح هجومهم على خصمهم، وكذلك ولاؤهم لحليفهم، ينطلق من بواعث بعيدة عن وقائع المشهد المعاش، بل هي ألصق باليقيننيات القارة سابقاً.

ما هو لافت للانتباه أن أسباب الرفض والتأييد لدى الطرفين – اليساريين والإسلاميين معاً – إنما تنبثق من محدّدات إيديولوجية أولا

ما هو ثابت لدى الطرفين، غياب أيّ مقاربة جدّية لما يحدث تستلهم الواقع السوري الراهن، دون الاتكاء أو الاستسلام للرغبات أو القناعات المتأبدة في النفوس، تستطيع معاينة احتمالات الربح والخسارة لصالح ما هو وطني وليس من منظور عقدي.

استيقاظ الكوامن الإيديولوجية لدى أربابها وحرّاسها، يعزز كثيراً من مجانية المناطحة والردح بين الطرفين المتصارعين، ويفقدهما معاً، أي قدرة على مقاربة موضوعية للموضوع المُختَلف عليه، فضلاً عن أنه شاهدٌ بامتياز على شلل الإرادة الذاتية، واستمراء لحالة الاستنقاع الأخلاقي والثقافي معاً.