جاموقة الوطن

2020.01.12 | 16:53 دمشق

2222.jpg
+A
حجم الخط
-A

«يا الله ليش ليش... أخدو حبّي عالجيش... وحمّلوه البارودة»

(زينة صقر، مطربة شعبية سورية)

أتاحت الثورة، وما أعقبها من خلخلة في أنظمة البلد، الفرصة لكثير من هواة الكتابة أن يسجّلوا تجاربهم الخاصة، سواء في نشاطهم المعارض أو في الاعتقال الذي تبعه في أغلب الأحيان. ومنحتهم دور النشر المتكاثرة إمكانية طبع هذه التدوينات في كتاب، كما أعطاهم فضاء الإنترنت احتمال نشره بسهولة بعد إخراج بسيط للملف.

كان تداعي القبضة الأمنية والهجرة إلى خارج مناطق سيطرتها سبباً رئيسياً في ذلك، لكنه ليس الوحيد. إذ إن شروخاً عميقة أودت بتماسك كهنوت الثقافة في البلاد، بما يعنيه من تحديد ما يصح نشره وما لا يستحق الطباعة، مما قدّم لعشرات الشبان والشابات فرصة التجريب الحر. والحال أن هذا، بقدر ما فتح الباب أمام إغراق سوق القراءة السورية الراهنة بالغثاثة، فإنه قلّب تربتها المتوارثة المستقرة وجهزها لاستقبال بذور جديدة، منها كتاب مرعي أبو أحمد «عسكري بلا جبهة»، وهو كتاب طريف لأنه يتناول تجربة معمّمة إلى درجة أن أحداً لم يفكر في كتابتها، وهي الخدمة الإلزامية في الجيش، دون أن تكون لها خصوصية بطولية أو ميزة من أي نوع.

يقول المؤلف: «كنت عسكرياً يقاتل على كل جبهات الوطن ليملأ جيوب ضباطه، لكني لم أصل يوماً إلى جبهة العدو»، ومن هنا اختار عنوانه.

والحق أن الكتاب يكتسب أهميته من عاديته هذه ومن قابليته لتماهي الكثير من القراء. فإذا كانت تجربة السجن السياسي تعني شرائح متقلصة العدد باطراد حتى انحصارها في النخب قبيل الثورة؛ فإن «السَوق» إلى الجيش مرحلة إجبارية مر بها ملايين الشبان السوريين خلال عقود من حكم الأسدين، بكل ما فيها من مخازٍ معروفة، مما يجعل من تسجيلها أمراً ملحاً لحفظ جزء مؤثر من ذاكرة البلاد التي لم تنتفض لأسباب سياسية فقط.

«كسر النفسية»

يبدأ الكتاب في عام 2003، إثر تخرّج صاحبه بعد أن ذاق طرفاً يسيراً من عسكرة الحياة السورية عبر ارتداء البدلة الزيتية وتلقي دروس «الفتوة» في المرحلتين الإعدادية والثانوية، بما يعنيه ذلك من تعلم فك السلاح وتركيبه واستعماله في حقل الرمي، ثم «التدريب الجامعي» ومعسكراته الصيفية التي سيكتشف أنها لا شيء مقارنة بمرحلة «الدورة» التي سيخوضها، ككل العساكر في أول «خدمتهم».

«اعتز بنفسك ولا حيوان»!

مهمة الدورة، كما يقول المشرفون عليها، هي تحويل «الطنطات» (أي الشبان المدنيين الملتحقين حديثاً) إلى «وحوش» (؟). وفي سبيل ذلك يتعرّض هؤلاء لتنكيل تتناوب فيه المنهجية المقصودة مع مزاجية المدرّبين وأشباههم من ضباط ورقباء وطلاب متطوعين متقدمين. ينطلق هذا منذ رش الماء البارد في درس الرياضة الصباحي وحتى آخر ما قد يتفتق عنه ذهن المناوب ليلاً ليتسلى، من طلب نملة أنثى أو ذكر! ويُصحب بتعرّض هؤلاء «الأغرار» لموجة غير مسبوقة، بالنسبة إليهم، من السباب والإهانة وربما الضرب، كثيراً ما تنتهي بعبارة غريبة ورائجة تطالب المتدرب: «اعتز بنفسك ولا حيوان»! إذ عليه أن يكون صاحب خبطة القدم الأعلى صوتاً عند الدخول إلى ساحة العلَم لترديد شعار البعث «أمة عربية واحدة/ ذات رسالة خالدة» والهتاف باسم القائد بحناجر خشنة سيطرب لها الضباط كلما أدت إلى شكاوى الجوار.

في الدورة يقوم رقباء الوطن بتدريب جنود الوطن على تراب الوطن: «منبطحاً.. جاثياً.. مستلقياً.. متدعكلاً.. واقفاً.. جاثياً..»، ثم المسير بهم مع الإيعاز «زمجررر... ردد» وصولاً إلى «الجاموقة»، وهي حوض كبير تتجمع فيها مياه الصرف الصحي، يخوض فيها العساكر حتى رقابهم، تنفيذاً لعقوبة عشوائية.

الخروف الذهبي

بعد الدورة يتلقى المجنّد «فرزه» إلى إحدى الثكنات التي تغص بها البلاد طالما هي في «حالة حرب». وهناك من المفترض أن يقضي مدة خدمة رتيبة، وهو ما لم يحصل مع مؤلف كتابنا الذي تنقل مراراً.

لكن النظام واحد رغم اختلاف الأماكن. وهو ينبني أساساً على عدم كفاية رواتب الضباط وجشعهم؛ مما يدفعهم إلى طرق فساد أبرزها «تفييش» المجندين الإلزاميين بمنحهم إجازات طويلة تنتهي آخر الشهر، يحضر العسكري بعدها ويسدد مبلغاً معلوماً للضابط المسؤول ويعاود السفر إلى بلده ليعمل ويدفع معظم ما يجنيه لهذه الرشوة، وما يبقى للتنقل وبعض الطعام والدخان، إن لم يكن من أبناء العائلات الميسورة. وهو ما يحرص الضباط على تبينه عند اختيار عناصرهم، ولا سيما الحجّاب والسائقين الذين سيتكفلون بإصلاح السيارة وقطع غيارها، مما يخلق منافسات خفية بينهم على اقتناص المجند الدسم الذي هو الخروف الذهبي الذي سيغذّي سلسلة طويلة من الفساد تبدأ بالضابط المسؤول عنه الذي ينادَى «المعلم» وتصل إلى قائد الفرقة، دون أن تغفل عناصر المخابرات الذين يبحثون عن هذه الحالات ليبتزوا أصحابها تحت طائلة تأدية واجبهم بإحالتها إلى «الشعبة».

الباب الثاني الأشهر للرزق هو «التعيينات»، أي المخصصات الرسمية للإطعام والتدفئة وتسيير الآليات. وفيه يتعاون الضباط النافذون مع المساعدين المعنيين الذين يملؤون لهم سياراتهم بالبنزين وبيدونات المازوت وأكياس اللحوم والدجاج والرز وأطباق البيض وتنكات الجبنة والزيت والسمن. بينما يُترك المجندون البائسون ليستكملوا ما جاء من طعام «القصعة» المجاني الفقير بالشراء من «الندوة»، وهي بقالية مصغرة توجد في كل قطعة وتحوي بعض أنواع الصندويش والعصير والبسكويت والمعلبات، ولا يمر نيل تعهدها دون شراكة مع الضباط المخولين.

قبل أن يصوب الجيش السوري أصناف أسلحته باتجاه أبناء بلده منذ 2011، كان قد دأب على قتل أعوام ثمينة من حيواتهم بزجّهم في هاوية الفراغ السامّ واللاجدوى. ولذلك كان هاجس معظم الشباب تحصيل عمل في إحدى دول الخليج، يؤهلهم لدفع البدل النقدي بعد خمس سنوات من الاغتراب. غير أن هذا لم يكن يتيسّر إلا للقلة، فيما كانت فوهة مراكز التجنيد الشرهة تبتلع عشرات الألوف في كل دورة لتدخلهم في ماكينتها الصدئة والضخمة التي لن ينالوا «براءة الذمة» منها إلا بعد أن تترك في أنفسهم ندوباً لا تمحى من تقبل الإذلال والعبودية الجماعية، والتأقلم مع الفساد الشامل، واتخاذ تصرفات وضيعة لتأمين السلامة الشخصية وتحقيق مصالح سخيفة.

إنها «عسكرية... دبّر راسك»!!