جاك شيراك في رواية أخرى

2019.09.30 | 22:18 دمشق

thumbs_b_c_2d0e4a6a441a6f4bac6d04fb6b8c721a.jpg
+A
حجم الخط
-A

بعيدا عن السذاجة التصنيفية التي تبحث دائماً عن فوارق حادة في الألوان في أحسن الأحوال وعن تمييز قاطع بين الأبيض والأسود في أسوئها، شكّلت وفاة الرئيس الفرنسي السابق بعد مرور فترة 12 عاما على تركه قصر الرئاسة والذي مكث فيه لنفس المدة، حدثاً فرنسياً وطنياً جمع أغلب التيارات السياسية التقليدية البعيدة عن التطرف. وبعيداً عن السذاجة التحليلية التي نسارع في إيجادها لدى سوانا، فلن أخوض في دفاعٍ تبسيطي عن سنوات حكمه والأداء السياسي له، وأترك ذلك للأبحاث المستفيضة التي يستحقها الراحل. وبانتظار التحليل البارد والموسع، أستعرض بعضاً من مواقفه التي عشتها شخصياً أو تابعتها وأعتبر بأنها ذات حمولة رمزية مهمة، وعلى كل من يميل إلى نقده بعنف وعنفوان بعد موته أن يتوقف عندها.

تبدأ قصتي مع جاك شيراك في منتصف ثمانينات القرن الماضي، حين كان رئيساً لبلدية العاصمة الفرنسية (1977 ـ 1986) بعد أن شغل منصب رئيس للوزراء في عهد جيسكار ديستان (1974 ـ 1976). ففي يوم صيفي، كنت طالباً في زيارة لعاصمة النار والنور أتسكع في شوارعها. ولقطع الشارع باتجاه متحف اللوفر، راودتني نفسي الشرقية بأن أعبره بعيداً عن ممر المشاة، وإذ بسيارة سيتروين كبيرة تكاد أن تدهسني. بعد أن قفزت إلى الوراء بحركة أكروباتية أنقذتني وسمحت لي بأن أقص الحادثة اليوم، توقفت السيارة الكبيرة بعد أمتار. توقعت، لأسباب تكوينية مرتبطة ببلد المنشأ، بأن سائقها أو راكبها، أو الاثنين متضامنان متكافلان معاً سيرمياني، في أحسن الأحوال، بطيب الكلام لأنني كنت سأودي بالسائق إلى المحكمة إن هو دهسني. تجمدت في مكاني هلعاً ورعباً وانتظاراً. وعندما وصلت السيارة إلى محاذاتي رجوعاً، فتح الراكب خلفا زجاج نافذته متوجها لي بابتسامة قلقة: "أتمنى يا سيدي أن لا تكون قد تعرضت لأي سوء". لم أجب السائل ولكن وجهي أجابه، فقد كنت فاغر الفم، منكمش الأعضاء، راجف الركب، وجامد العينين. وبعد أن اطمئن، اعتذر عن سائقه الذي سبب لي "الرعب" وتمنى لي يوماً سعيداً، وتابعت السيارة طريقها. جلست بعدها على الرصيف لدقائق طويلة وأنا أبكي، لماذا؟ ربما لأنني أسقطت الواقعة على ما نعيشه في بلادنا "النامية" حيث اعتراض كهذا مني لموكب رسمي يمكن له أن يذهب بي إلى النسيان.

عندما أصبح جاك شيراك رئيسا للجمهورية سنة 1995، وأثناء زيارته السنوية المعتادة إلى المعرض الزراعي، وبينما كان يُمارس هوايته الأقرب إلى قلبه في الانهماك في مصافحة الناس، شتمه

مد ليونيل جوسبان يده لمصافحة يد زوجة الزعيم العربي، فاعتذرت "إيماناً"، وظلت يد جوسبان معلقة في الهواء لهنيهات، فسارع شيراك، في مشهد شديد الطرافة، لمصافحة رئيس وزرائه ليخلصه من الإحراج.

أحدهم ممتنعاً عن مصافحته، وقائلاً له: "يا حمار"، فابتسم شيراك قائلاً: وأنا جاك شيراك، بأسلوب لبق وكأن الشخص قليل التهذيب قد عرّف عن نفسه بشكل طبيعي، وتابع طريقه.

وفي إحدى زيارات "الليبرالي" جاك شيراك إلى بلد عربي مجاور لسوريا، مصطحباً رئيس الوزراء "الاشتراكي" ليونيل جوسبان، حيث تعايشُ اليمين والاشتراكيين بين 1997 و2002، كان أحد مسؤولي هذا البلد المستضيف، مصحوباً بزوجته كون الرئيس الفرنسي كان مصحوبا بزوجته. وعندما تصافح الوفدان، مد ليونيل جوسبان يده لمصافحة يد زوجة الزعيم العربي، فاعتذرت "إيماناً"، وظلت يد جوسبان معلقة في الهواء لهنيهات، فسارع شيراك، في مشهد شديد الطرافة، لمصافحة رئيس وزرائه ليخلصه من الإحراج.

وفي نفس الوقت تقريباً، انتقل شيراك إلى دمشق، حيث استقبله في المطار، وهذه كانت من النوادر، حافظ الأسد. وللترحيب بضيف سوريا الكبير، وكما جرت عليه العادة، قامت السلطات السورية بحشد طلاب المدارس على الطريقة الكورية، رافعين عبارات لا يفهمون معناها. وبعد هبوط الزعيم السياسي "الكبير" من سلم الطائرة، شاهد الجموع التي تصرخ باسمه، فاخترق النطاق الأمني الشديد المحيط بالرئيسيين، وتوجه نحو الجموع في ظل حيرة وغضب الأمن السوري. وعندما اقترب من الناس، شعروا بالخوف لأنهم لم يعتادوا على مثل هذه التصرفات. لم يكتف بذلك، بل انخرط بينهم وبدأ بتقبيل الأطفال ومصافحة الكبار، وصار صراخهم باسمه حقيقياً بعد أن كان ترديداً لما هو مُلَقّن. وكان حافظ الأسد يقف منتظرا وقد بدا على وجهه، كما دائما، الغضب والامتعاض. وبعد دقائق قليلة جدا، عاد شيراك إلى السجادة الحمراء وهو مغتبط وراسم ابتسامة كبرى على وجهه قائلاً للأسد: "أعرف الآن أين أبدأ حملتي الانتخابية في المرة القادمة". استمرت ابتسامة شيراك الحقيقية، واستمر غضب الأسد الحقيقي، فالجملة مكروهة له شكلا ومضموناً.

وأخيراً، ومنذ عدة سنوات وبعد مغادرته لقصر الرئاسة بمدة طويلة، التقيت به مصادفة في أحد المقاهي المحاذية لمكان سكنه قرب نهر السين. فتوجهت إلى طاولته سائلاً الإذن بسرد رواية لا تتجاوز مدتها 5 دقائق، وأنا أنوي أن أذكره بحادثة اللوفر. فرفض مبتسماً وقال، لا. فتعرّقت خجلاً لهذا الصد غير المتوقع. ولكنه تابع ليقول خمسة دقائق لا، إنما ساعة، فأنا سأكون سعيداً. أخذت مكاني ناسياً قصتي وطلبت منه رأيه فيما يحصل في سوريا. قال جاك شيراك كلاماً مهماً ومؤلماً، أتمنى أن تتاح لي الفرصة يوماً بأن أنقله.

كلمات مفتاحية