جائحة كورونا ووباء الأسدية

2020.03.21 | 23:04 دمشق

007.jpg
+A
حجم الخط
-A

النكتة السوداوية المنتشرة اليوم، تقول التالي: في الساعة العاشرة صباحاً كان عدد المصابين بفيروس كورونا في كوريا الشمالية إصابة واحدة. لكن في الساعة العاشرة وخمس دقائق كان عدد المصابين صفراً. وهكذا على مدار اليوم، يظهر مريض ويختفي.

ففي بلاد يحكمها طاغية، لا يجوز أن يظهر أي ضعف. لا يجوز انكشاف أي وهن في الأمة. هي منتصرة دائماً، قوية وجبارة. لا مرضى فيها ولا شائبة.

قبل الثورة السورية، كان النظام الأسدي يحبذ التماهي مع نموذج الكوري الشمالي. الديكتاتور المحبوب من عشرات الملايين، القائد الملهم، الذي ينتخبه شعبه ببصمة الدم. منتصر دوماً وأبداً على الصهيونية والإمبريالية.

بلاد الأسد منيعة، صلبة لا تشوبها شائبة. تملك دوماً العلاج لأي خطأ أو انحراف أو حتى مرض، أكان مرضاً بيولوجياً أو سياسياً. علاج ناجع وفوري: الاستئصال.

وعلى شاكلة عدّاد المرضى في النكتة الكورية، كان عدّاد الذين لا ينتخبون الأسد، أو المعارضين، أي "الخونة". هؤلاء المصابون بفيروس الأفكار المنحرفة. فبلاد الأسد منيعة، صلبة لا تشوبها شائبة. تملك دوماً العلاج لأي خطأ أو انحراف أو حتى مرض، أكان مرضاً بيولوجياً أو سياسياً. علاج ناجع وفوري: الاستئصال.

هنا كانت الأسدية تتماهى مع المثال الستاليني، والماوي، الذي وصلت ذروته مع تجربتي بول بوت ("الخمير الحمر" في كمبوديا) وكيم إيل سونغ وذريته في كوريا الشمالية. فالاستئصال عمل يومي، صوناً لصحة الدولة والنظام والأمة، ومناعتها.

وعلى طريقة "الحجر الصحي" (الكرنتينا)، كانت العقيدة الأمنية والعسكرية التي اعتنقها النظام الأسدي، ابتداء في العزل والتطهير داخل الحزب، ثم في قلب الدولة بعد الاستيلاء عليها، وصولاً إلى تحويل البلاد كلها إلى معزل وحجر تخضع فيه إلى إجراءات حالة الطوارئ، الأبدية. عقيدة لديها جواب واحد لأي "مرض": الاستئصال.

وقد أثبتت سياسة "الحجر الصحي"، الذي لا علاج فيه سوى الاستئصال، نجاعته الكبيرة في شباط 1982، بمدينة حماة وبلدات ومدن أخرى.

ثم إن العالم كله والسوريين جميعهم، يعرفون تماماً ما حدث منذ آذار 2011 وحتى اليوم، مع أقصى ما يمكن من استئصال شامل تم تطبيقه في سوريا، على نحو لا تستطيعه أي جائحة وبائية أو كارثة طبيعية.

المفارقة في النكتة الكورية والحقيقة السورية، أن الفيروس أو المرض يستدعيان عادة غريزة تحدي الموت، مقارعته والتغلب عليه. المرض محفز للبحث عن العلاج، والرد عليه هو طلب الشفاء. لكن هنا، العلاج أو الدواء هو الموت نفسه. قتل المريض، التخلص منه.. لا محاربة المرض أو أسبابه. مواجهة خطر الموت يتحول إلى ممارسة للقتل ولتعميم الموت، تحت شعار "الحفاظ على الأصحاء".

هكذا نظام يصير هو مصدر الموت، هو الجائحة القاتلة.

في الأسابيع الأولى لانتشار "كورونا"، أبى النظام السوري أن ينافسه فيروس مجهري على سلطة الموت، فأنكر تقريباً وجوده، وراح يكابر إزاء خطره. خصوصاً أن أي مصارحة شفافة، تتطلب في المقابل أن يعلن سياسة صحية واضحة في مواجهته. هذا ما يستجلب "مسؤولية" ليس بقادر عليها تماماً.

بالطبع، لم يدم الإنكار طويلاً. لكن التأخر كان ثمنه انتشار صعب الاحتواء. فتحول النظام إلى سياسة الكذب والتعمية والادعاء. سياسة الغموض كما سياسة تزوير الحقائق. فالمنظومة الاستشفائية متداعية، الاقتصاد شبه منهار، الميزانية شبه مفلسة، البنى التحتية مدمرة تقريباً. الإمكانيات في حملات الوقاية والتعقيم وإنشاء المعازل، بالغة الضعف.

ليس النظام السوري من يقبل الإقرار بالضعف أو العجز. لذا، إخفاء الحقيقة مبدأ دائم، ولو كان الثمن مضاعفة أعداد الضحايا، وانتشار المرض فاتكاً بالناس. الموت للناس ولا المذلة للنظام.

وعلى هذا النحو ابتلي السوريون بموتين: الموت الذي يقترفه النظام عمداً أو عن إهمال أصيل فيه، والموت الآتي من "كورونا". ويتم هذا بالتأكيد في بلد سمته الأولى "الصمت"، ففي جمهورية الخوف هذه لا أحد يرفع صوته، أو يعترض أو يحتج. هذا يندرج في خانة الخيانة وبث الوهن في نفسية الأمة.

في "سوريا الأسد" معيار النجاح والفشل، الانتصار والهزيمة، الشفاء أو البلاء، ليس أبداً تجنب الموت. بل إكثاره. الموت يكرس الصمت، يستأصل الخطر: الأعداء والمرضى والمتململين.

ليست مهمة الهزيمة بحرب العام 1967 طالما أن النظام لم يسقط. وليست مهمة خسارة الحرب عام 1973 لأن النظام أيضاً لم يسقط. ليس مهماً الإدقاع والفقر وفشل التنمية والحصار الخانق والقمع الوحشي طوال الثمانينات والتسعينات إذا كان هذا يديم النظام. ليس مهماً موت مئات الآلاف وخراب سوريا كلها واحتراقها طالما النظام صمد ولم يسقط. ليس مهماً أن لا يبقى من النظام شيئاً سوى قدرة القتل والتدمير، طالما الأسد يسكن القصر. ليس مهماً أن تقع سوريا بأسرها تحت الاحتلالات.. المهم أن يحمل الأسد لقب "الرئيس".

في "سوريا الأسد" معيار النجاح والفشل، الانتصار والهزيمة، الشفاء أو البلاء، ليس أبداً تجنب الموت. بل إكثاره. الموت يكرس الصمت، يستأصل الخطر: الأعداء والمرضى والمتململين. الموت هو حبة الدواء الوحيدة التي يملكها النظام. وهو إذ يواجه "كورونا"، فقط كاضطرار لحفظ مقومات النظام. وربما يستثمره كسلاح سياسي، للمزيد من انصياع الرعايا له، ولتعميق حاجتهم له. سيلعب دور "الدولة" بحدود ما يؤمن مناعته وتسلطه.

هكذا، كورونا هو في سوريا مكسب سياسي للأسد وموت مضاعف للسوريين.

كلمات مفتاحية