ثورة الجّياع وكرامة المال

2019.10.26 | 15:42 دمشق

2019-10-25t113328z_1806658727_rc1564cfb8f0_rtrmadp_3_iraq-protests.jpg
+A
حجم الخط
-A

حاولوا إقناع الشعوب كثيراً بنظرية الزهد، وبأن المال أمرٌ ثانوي في حياة الإنسان، وبأن الكرامة قرينة الفقر، فبات هذا النداء ملازماً لوعّاظ السّلاطين، يخاطبون به الشعوب، ويغضّون الطرف عن الحكام، إذ يحق – في منظورهم- للحاكم ما لا يحق للرعية، وانتشرت على مرّ الأزمان فكرة الإنسان الصالح صاحب الدخل البسيط، أو الذي يكفيه فتات رغيفٍ، وبأن الغنى لا يحصل إلا بمعجزة، والمال لا قيمة له مع القناعة والرّضا، والنتيجة أن السلاطين استأثروا بموارد البلاد، ونهبوا العباد، وبات اقتصاد الأوطان في أدنى المراحل، وارتبطت به كل مشكلات التعليم والصحة والتنمية والتجارة والمرافق والخدمات، فضلاً عن التصنيع والتحصين والإعداد والبناء، النتيجة دول فقيرة تعاني، وإنسانٌ عربي عاجز عن التفكير والإنتاج، محتاج دائماً لمن يعوله، ومن يقرضه، ومن يوجهه منذ الولادة وحتى الوفاة، فهو يحتاج أيضاً لمن يدفع ثمن قبره، ومن يكفل ورثته ليسدّوا ديونه من بعده، ثم يهتفُ هاتفٌ ليتبرأ من ثورات الشعوب، وينتقص منها قائلاً: إنها ثورة جياع!

لم تخرج الشعوب في ثوراتها عن عبث، ولم تكن سُبَّةً أو نقيصةً أن يُطلق على ثورة شعب أنها ثورة جياع، فكرامة المواطن في وطنه مرتبطة بما يحفظها فيه، ويندرج تحت هذا البند تفاصيل حياة شتى، يقاسيها الإنسان العربيّ المطوّق بأغلال القهر، والمحاصر بسياط الجلاد، وكل ما حوله يمنعه من أن يعارض أو يطالب أو حتى يفكّر بحقوقه، فضلاً من أن يكون له حلم، مجرّد حلم.

لم تخرج الشعوب في ثوراتها عن عبث، ولم تكن سُبَّةً أو نقيصةً أن يُطلق على ثورة شعب أنها ثورة جياع، فكرامة المواطن في وطنه مرتبطة بما يحفظها فيه

هم يريدون للشعب أن يهلل باسم الحاكم، ويصفّق له، ويركع أمام صورته، ويقدّم ألوان الولاء والطّاعة والتقديس والتبجيل، وهو يعلم أن ثمن حذاء زوجة هذا الحاكم يعادل قوت عشرات الأسر الجائعة في شهر كامل، ويريدون أن يقف الناس لساعات أمام طوابير المحروقات والخبز، فيشعر أحدهم بالحظوة إن حصل على بضعة أرغفة، وإن تخطاه سريعاً شخص يرتدي الزيّ العسكري، ليأخذ رغيفه ويمضي في ثوان، دون أن يجرؤ أحد على الاعتراض بكلمة، فالجميع يعلم - وصاحب الزيّ العسكريّ أوّلهم-  أن السّرقات الأكبر ليست عند طابور الخبز ولا بين أسطوانات الغاز، فالسّرقات تحدث على الملأ من كل موارد الدولة، ومن عَرَق المواطن المقهور، لتصبّ في جيوب المسؤولين، ومنها إلى حسابات البنوك السّرّية خارج البلاد.

لقد أنهكت معظم الحكومات العربية شعوبها، وأوصلتهم إلى حالة الغليان، بعد أن اكتشفوا أخيراً أن السّكوت سيؤدّي إلى نتائج أكثر سوءاً، وبأن ضحايا الصّمت سيكون بالدرجة الأولى هم وأبناؤهم، ضمن حالة فقرٍ لا تخفى، وفرص عملٍ ضئيلة، وبطالة متفشّية، وإهمال كبير في خدمات الصّحّة والتّعليم والبيئة وشتى ما يتعلق بحقوق المواطن، كله منسيّة وطي الإهمال والتّجاهل، والنتيجة كوارث تحدث للبشر، وتبريرات واهية من الحكومات لفشلها الذريع في إدارة الدولة واقتصادها، يرافق ذلك تهديدات مبطّنة أو معلنة، ولا شيء هناك حول الأمل باستجابة ما، إلا بعد نزول الشعب إلى الشّوارع، باحثاً عن ملامح كرامةٍ مفقودة، باحثاً عن حقوق مسلوبة، وأحلام مبعثرة، فالكرامة لا تتعلق فقط بحرّيّة التعبير، ولا بمطالب تداول السّلطة أو شفافية الانتخابات، الكرامة أحياناً تأتي على هيئة رغيف يصل إلى إنسانٍ يحتاجه في وطنه دون أن يذل وهو يطالب به، ودون أن يُحرم النوم وهو يفكر بالحصول عليه لإطعام أسرته.

فالكرامة لا تتعلق فقط بحرّيّة التعبير، ولا بمطالب تداول السّلطة أو شفافية الانتخابات، الكرامة أحياناً تأتي على هيئة رغيف يصل إلى إنسانٍ يحتاجه في وطنه دون أن يذل وهو يطالب به

ونحن إذا سلّمنا بفكرة كون الكرامة تولد مع الإنسان، وبكونها أهم حق من حقوقه، لا يمكن لأحد أن ينزعها عنه، ولا أن يحرمه إيّاها لأي سبب، وبأنها متساوية عند كل البشر، فلابد أن نفكّر بهدر الكرامة الذي يحصل كل يوم في داخل الإنسان المقهور، والذي بات يتمنى الموت ليتخفف من عبء الحياة، فلمَ لا تكون ثورة للجياع ضد من سرقوا قوتهم، وثورة للعاطلين عن الأعمال ضد من نهبوا الاقتصاد وطوّعوا الأرض بمن فيها لزيادة ثرواتهم، ولم لا تكون ثورة للعاجزين ضد من شكّلوا حولهم بيئة من العجز تقتل الفكر والإبداع وتخنق كل فرصة للتجدد والحياة وتقوم بجرائم وأدٍ لكل حلمٍ في مهده، ولم لا تكون ثورة ضد من حولوا الأوطان إلى حاويات نفايات، بعد أن استنزفوا الخيرات والموارد وباعوا البلاد للمحتل بأوجه كثيرة، وليستمرّ بذلك عرش الملوك والحكّام، وتبقى السّجون مقابر للعباقرة والعلماء والملهمين، ويظل الصمت أساس العيش في السّجن الكبير.

ولقد تحرّك الإنسان صاحب الإرادة الحرّة أخيراً وحطّم أغلال السجن الوهمية، وكسر كل حواجز الخوف، وودّع الصمت إلى غير رجعة، وبات يعرف تماماً أهدافه، كما يعرف تماماً حقوقه المشروعة ومن سلبها منه، وبات هذا الإنسان الحر مدركاً لواجباته، وأوجبها هو دفع الظّلم عنه وعن بلاده، بإسقاط أنظمة الفساد وتحطيم الأصنام وطرد المستبدّين إلى غير رجعة.

إننا نعيش اليوم في مرحلة جديدة، مرحلة تودّع ما كان من عهد ظلام مطبق، لنستقبل مرحلة وعي يسمع فيها صوت الكرامة بوضوح، وفيها تطغى الإرادة والحق والإصرار على الأمل، والتشبث بالحلم حتى يتحقق، ولابد يوماً أن يتحقق.